فإن أحب أحدهم بلدة جعل الحسن مقصوراً عليها وقال سعادة الحياة لا تعرف إلا تحت جوها والتنزه لا يطيب إلا في كرومها وبساتينها وأن الظماء لا يسقى إلا بورد مائها وأن كرم الخلال لا يتعدى سكانها والتبحر في العلم لم يعهد إلا لعلمائها وأن الفصاحة لم تظهر بدائعها ولم تبد روائعها إلا على السنة خطبائها وشعرائها وإن رئاسة الصنائع قد انتهت إليها وأن الجود لم يضرب خيامه إلا في أرضها وبالجملة فإنها المخصوصة من بين بلاد الله كلها بأنها مجتمع المحاسن الطبيعية والصناعية وأنها الحرية بأن تستبد بمجد التفوق على كل بلدة في الأرض وإذا كره بلدة قال نسيمها يحمل نسم الأمراض وثمارها تورث الأسقام وحرها يذيب الأجسام وأهلها خبثاء لئام وعلماؤها أقل من صغار الطلاب علماً وخطباؤها أقل الناس عقلاً وأضعفهم تصوراً ليس لهم من مقتضيات الخطابة إلا الجراءة يبيع الخرز بسعر الدرر وينادي على النحاس كما ينادي على الذهب بل استغرب أمر من يعرض القطن ويقول هذا حريراً ثم والنحاس ذهباً.
وأعلم أن تساوي البلدتين هواء وماء وأدباً وعلماً وتجارةً وزراعةً عند جميع الناس لا يرده عن قصر المحاسن عليها دون الأخرى إذا كان له من وراء مدحها غاية كما لا يردعه عن سلب كل حسن عن البلدة الأخرى وهكذا يفعل بهم الكلف والمقت في سائر الأشياء وأنل لترى أثر هذا الأمر في تلاميذ المدارس فقد يقوى قصد أحدهم تارة فتشد رغبته ويكثر تحصيله وقد يضعف تارة فتضعف رغبته في الطلب ويقل تحصيله وقد نرى في الطلبة من رسخ في نفسه فضل العلم فذلك لا يعتريه في طلبه ملل ولا يأخذه ضجر ولا يستطيل زمأن التحصيل وإن طال ويحسب الكتب مغاوض اللؤلؤ ومعادن الذهب.
الخلاصة
قصارى القول أن من أراد حمل الناس على محمدة فلا مندوحة له أن يزرع في نفوسهم يزور الانتفاع بها واكتساب الفائدة بتحصيلها حتى إذا تمكن تصور ذلك في أذهانهم أقبلوا عليها إقبال الناس لهذا العهد على ما يحب من الأزياء وعلي سبيل الاستطراد أقول أن من أراد الاقتدار على الترغيب وبلوغ الأرب فليقف أثار مخترعي الأزياء فهؤلاء هم أئمته العظام وشراحه الكرام وكل ما كتب الخطباء من التنبيهات لا يعدل بجزء مما يجري على ألسنتهم أو يصور في دفاتر أزيائهم فهؤلاء قد عرفوا الطباع البشرية وخبروا الأهواء