فإن قلت: وأيّ شيء بلغ من قدر الكلب وفضيلة الديك، حتّى يتفرّغ لذكر محاسنهما ومساويهما، والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما، شيخان من علية المتكلّمين، ومن الجلة المتقدّمين. وعلى أنّهما متى أبرما هذا الحكم وأفصحا بهذه القضيّة، صار بهذا التدبير بهما حظّ وحكمة وفضيلة وديانة، وقلدهما كلّ من هو دونهما، وسيعود ذلك عذرا لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذّبّان وبنات وردان، وبين الخنافس والجعلان، وبين جميع أجناس الهمج وأصناف الحشرات، والخشاش، حتّى البعوض والفراش والديدان والقردان «١» فإن جاز هذا في الرأي وتمّ عليه العمل، صار هذا الضّرب من النظر عوضا من النّظر في التوحيد، وصار هذا الشكل من التمييز خلفا من التعديل والتجوير، وسقط القول في الوعد والوعيد، ونسي القياس والحكم في الاسم، وبطل الردّ على أهل الملل، والموازنة بين جميع النّحل، والنظر في مراشد الناس ومصالحهم، وفي منافعهم ومرافقهم؛ لأنّ قلوبهم لا تتّسع للجميع، وألسنتهم لا تنطلق بالكلّ. وإنّما الرأي أن تبدأ من الفتق بالأعظم، والأخوف فالأخوف.
وقلت: وهذا باب من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرّف وطريق من طرق المزاح، وسبيل من سبل المضاحك. ورجال الجدّ غير رجال الهزل، وقد يحسن بالشّباب ويقبح مثله من الشيوخ، ولولا التحصيل والموازنة، والإبقاء على الأدب، والدّيانة بشدّة المحاسبة، لما قالوا: لكلّ مقام مقال «٢» ، ولكلّ زمان رجال «٣» ، ولكلّ ساقطة لاقطة «٤» ، ولكلّ طعام أكلة «٥» .
١٦١-[تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها]
قد زعم أناس أنّ كلّ إنسان فيه آلة لمرفق من المرافق، وأداة لمنفعة من المنافع، ولا بدّ لتلك الطبيعة من حركة وإن أبطأت، ولا بدّ لذلك الكامن من ظهور، فإن أمكنه ذلك بعثه، وإلّا سرى إليه كما يسري السمّ في البدن، ونمى كما ينمي العرق، كما أنّ البزور البرّيّة، والحبّة الوحشيّة الكامنة في أرحام الأرضين، لا بدّ لها من حركة