والقسمة الأخرى ما أودع صدور صنوف سائر الحيوان، من ضروب المعارف، وفطرها عليه من غريب الهدايات، وسخّر حناجرها له من ضروب النّغم الموزونة، والأصوات الملحنة، والمخارج الشجيّة، والأغاني المطربة؛ فقد يقال إنّ جميع أصواتها معدّلة، وموزونة موقّعة، ثمّ الذي سهّل لها من الرفق العجيب في الصنعة، مما ذلّله الله تعالى لمناقيرها وأكفّها، وكيف فتح لها من باب المعرفة على قدر ما هيّأ لها من الآلة، وكيف أعطى كثيرا منها من الحسّ اللطيف، والصنعة البديعة، من غير تأديب وتثقيف، ومن غير تقويم وتلقين، ومن غير تدريج وتمرين، فبلغت بعفوها وبمقدار قوى فطرتها، من البديهة والارتجال، ومن الابتداء والاقتضاب، ما لا يقدر عليه حذّاق رجال الرأي، وفلاسفة علماء البشر، بيد ولا آلة. بل لا يبلغ ذلك من الناس أكملهم خصالا وأتمّهم خلالا، لا من جهة الاقتضاب والارتجال ولا من جهة التعسّف والاقتدار، ولا من جهة التقدّم فيه، والتأنّي فيه، والتأتّي له. والترتيب لمقدّماته، وتمكين الأسباب المعينة عليه. فصار جهد الإنسان الثاقب الحسّ، الجامع القوى، المتصرّف في الوجوه، المقدّم في الأمور، يعجز عن عفو كثير منها.
وهو ينظر إلى ضروب ما يجيء منها، كما أعطيت العنكبوت، وكما أعطيت السّرفة «١» ، وكما علّم النحل، بل وعرّف التّنوّط من بديع المعرفة، ومن غريب الصنعة، في غير ذلك من أصناف الخلق. ثم لم يوجب لهم العجز في أنفسهم في أكثر ذلك، إلّا بما قوي عليه الهمج والخشاش وصغار الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقل والتمكين، والاستطاعة والتصريف، وذا التكلّف والتجربة، وذا التأنّي والمنافسة، وصاحب الفهم والمسابقة، والمتبصّر شأن العاقبة، متى أحسن شيئا كان كلّ شيء دونه في الغموض عليه أسهل، وجعل سائر الحيوان، وإن كان يحسن أحدها ما لا يحسن أحذق الناس متى أحسن شيئا عجيبا، لم يمكنه أن يحسن ما هو أقرب منه في الظنّ، وأسهل منه في الرأي، بل لا يحسن ما هو أقرب منه في الحقيقة.
فلا الإنسان جعل نفسه كذلك، ولا شيء من الحيوان اختار ذلك، فأحسنت هذه الأجناس بلا تعلّم، ما يمتنع على الإنسان وإن تعلّم، فصار لا يحاوله؛ إذ كان لا يطمع فيه، ولا يحسدها؛ إذا لا يؤمّل اللّحاق بها. ثمّ جعل تعالى وعزّ، هاتين الحكمتين بإزاء عيون الناظرين، وتجاه أسماع المعتبرين، ثمّ حثّ على التفكير