للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[جملة من القول في الماء]

(ونذكر بعون الله وتأييده جملة من القول في الماء ثمّ نصير إلى ذكر ما ابتدأنا به، من القول في النار) ذكروا أن الماء لا يغذو، وإنما هو مركب ومعبر وموصل للغذاء. واستدلّوا لذلك بأن كلّ رقيق سيّال فإنك متى طبخته انعقد، إلا الماء. وقالوا في القياس: إنه لا ينعقد في الجوف عند طبخ الكبد له، فإذا لم ينعقد لم يجئ منه لحم ولا عظم.

ولأننا لم نر إنسانا قطّ اغتذاه وثبت عليه روحه، وإن السمك الذي يموت عند فقده [١] ليغذوه سواه مما يكون فيه دونه.

قال خصمهم: إنما صار الماء لا ينعقد؛ لأنه ليس فيه قوى مستفادة مأخوذة من قوى الجواهر. والماء هو الجوهر القابل لجميع القوى. فبضرب من القوى والقبول يصير دهنا، وبضرب آخر يصير خلّا، وبضرب آخر يصير دما، وبضرب آخر يصير لبنا.

وهذه الأمور كلها إنّما اختلفت بالقوى العارضة فيها. فالجوهر المنقلب في جميع الأجرام [٢] السّيّالة، إنما هو الماء. فيصير عند ضرب من القبول دهنا، وعند ضرب من القبول لبنا.

وعصير كل شيء ماؤه والقابل لقوى ما فيه. فإذا طبخت الماء صرفا، سالما على وجهه، ولا قوى فيه، لم ينعقد وانحلّ بخارا حتى يتفانى؛ وإنما ينعقد الكامن من الملابس له. فإذا صار الماء في البدن وحده ولم يكن فيه قوى لم ينعقد. وانعقاده إنما هو انعقاد ما فيه.

والماء لا يخلو من بعض القبول ولكنّ البعض لا ينعقد ما لم يكثر.

وزعم أصحاب الأعراض [٣] أن الهواء سريع الاستحالة إلى الماء، وكذلك الماء إلى الهواء، للمناسبة التي بينهما من الرطوبة والرقة. وإنما هما غير سيّارين. ويدل على ذلك اجتذاب الهواء للماء وملابسته له، عند مصّ الإنسان بفيه فم الشّرابة [٤] .

ولذلك سرى الماء وجرى في جوف قصب الخيزران، إذا وضعت طرفه في الماء.


[٢] الأجرام: الأجسام.
[٣] انظر الحاشية السادسة، ص ٢٩.
[٤] الشرابة: هي التي تسميها العامة سارقة الماء، أعني الأنبوبة المعطوفة المعمولة من زجاج أو غيره.
فيوضع أحد رأسيها في الماء أو غيره من الرطوبات المائية، ويمص الرأس الآخر؛ إلى أن يصل الماء إليه وينصبّ منه، فلا يزال يسيل إلى أن ينكشف رأسه الذي في الماء. انظر مفاتيح العلوم ١٤٤، وانظر ما سيذكره الجاحظ في الصفحة ٦٤ حيث سماها هناك «السكابة» .

<<  <  ج: ص:  >  >>