فيتخّرق «١» الكلب بين يديه وخلفه، وعن يمينه وشماله ويتشمّم ويتبصّر، فلا يزال كذلك حتّى يقف على أفواه تلك الجحرة، وحتى يثير الذي فيها بتنفيس الذي فيها، وذلك أن أنفاسها وبخار أجوافها وأبدانها، وما يخرج من الحرارة المستكنّة في عمق الأرض- ممّا يذيب ما لاقاها من فم الجحر، من الثّلج الجامد، حتى يرقّ ويكاد أن يثقبه وذلك خفيّ غامض، لا يقع عليه قانص «٢» ولا راع، ولا قائف «٣» ولا فلّاح، وليس يقع عليه إلّا الكلب الصائد الماهر.
وعلى أنّ للكلب في تتبّع الدّرّاج «٤» والإصعاد خلف الأرانب في الجبل الشاهق، من الرّفق وحسن الاهتداء والتأتّي ما يخفى مكانه على البيازرة «٥» والكلّابين.
٣٣٤-[الانتباه الغريزي في الكلب]
وقد خبّرني صديق لي أنّه حبس كلبا له في بيت وأغلق دونه الباب في الوقت الذي كان طبّاخه يرجع فيه من السوق ومعه اللحم، ثمّ أحدّ سكّينا بسكين، فنبح الكلب وقلق، ورام فتح الباب؛ لتوهمّه أنّ الطّبّاخ قد رجع من السوق بالوظيفة «٦» ، وهو يحد السّكّين ليقطع اللّحم!!.
قال: فلما كان العشيّ صنعنا به مثل ذلك، لنتعرّف حاله في معرفة الوقت، فلم يتحرّك!!.
قال: وصنعت ذلك بكلب لي آخر فلم يقلق إلّا قلقا يسيرا، فلم يلبث أن رجع الطّباخ فصنع بالسّكّين مثل صنيعي، فقلق حتّى رام فتح الباب!!.
قال فقلت: والله لئن كان عرف الوقت بالرّصد «٧» فتحرّك له، فلما لم يشمّ ريح اللحم عرف أنّه ليس بشيء، ثمّ لما سمع صوت السّكّين والوقت بعد لم يذهب، وقد جيء باللحم فشمّ ريح اللّحم من المطبخ وهو في البيت، أو عرف فصل ما بين إحدادي السّكّين وإحداد الطباخ، إنّ هذا أيضا لعجب.