والنّاس قد يكلّمون الطير والبهائم والكلاب والسّنانير والمراكب «١» ، وكلّ ما كان تحتهم من أصناف الحيوان التي قد خوّلوها وسخّرت لهم، وربّما رأيت القرّاد يكلّم القرد بكلّ ضرب من الكلام، ويطيعه القرد في جميع ذلك، وكذلك ربّما رأيته يلقّن الببغاء ضروبا من الكلام، والببغاء تحكيه، وإنّ في غراب البين لعجبا، وكذلك كلامهم للدب والكلب والشاة المكّيّة، وهذه الأصناف التي تلقن وتحكي.
٢١٨٣-[تكليم الأنبياء للحيوان]
وقد روى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام السّباع والإبل ضروبا، ولم يذهبوا إلى أنها نطقت بحروف مقطّعة، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون الله أوحى إليه بحاجاتها، وإمّا أن تكون فراسته وحسّه وتثبّته في الأمور، مع ما يحضره الله من التوفيق، بيّن له معانيها وجلّاها له، واستدلّ بظاهر على باطن، وبهيئة وحركة على موضع الحاجة، وإمّا أن يكون الله ألهمه ذلك إلهاما.
وأمّا جهة سليمان بن داود، صلى الله على نبينا وعليه، في المعرفة بمنطق الطير ومنطق كلّ شيء، فلا ينبغي أن يكون ذلك إلّا أن يقوم منها في الفهم عنها مقام بعضها من بعض، إذا كان الله قد خصّه بهذا الاسم، وأبانه بهذه الدّلالة. وأعلام الرّسل لا يكثر عددها، ولا تعظم أقدارها على أقدار فضائل الأنبياء؛ لأن أكثر الأنبياء فوق سليمان بن داود، وأدنى ذلك أنّ داود فوقه، لأن الحكم في الوارث والمورّث، والخليفة والذي استخلفه، أن يكون الموروث أعلى، والمستخلف أرفع. كذلك ظاهر هذا الحكم حتى يخصّ ذلك برهان حادث.
وإنما تكثر العلامات وتعظم على قدر طبائع أهل الزمان، وعلى قدر الأسباب التي تتّفق وتتهيّأ لقوم دون قوم، وهو أن يكونوا جبابرة عتاة، أو أغبياء منقوصين، أو علماء معاندين، أو فلاسفة محتالين، أو قوما قد شملهم من العادات السيّئة وتراكم على قلوبهم من الإلف للأمور المردية «٢» ، مع طول لبث ذلك في قلوبهم، أو تكون نحلتهم وملتهم ودعوتهم تحتمل من الأسباب والاحتيالات أكثر ممّا يحتمل غيرها