وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا، كسبيل من كان قبلنا فينا. على أنّا وقد وجدنا من العبرة أكثر ممّا وجدوا، كما أنّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر ممّا وجدنا.
فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، وما يمنع الناصر للحقّ من القيام بما يلزمه، وقد أمكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التّقيّة «١» ، وهبّت ريح العلماء، وكسد العيّ والجهل، وقامت سوق البيان والعلم؟! وليس يجد الإنسان في كل حين إنسانا يدرّبه، ومقوّما يثقّفه. والصبر على إفهام الريّض شديد، وصرف النفس عن مغالبة العالم أشدّ منه، والمتعلّم يجد في كلّ مكان الكتاب عتيدا، وبما يحتاج إليه قائما وما أكثر من فرّط في التعليم أيّام خمول ذكره، وأيّام حداثة سنّه!! ولولا جياد الكتب وحسنها، ومبيّنها ومختصرها، لما تحرّكت همم هؤلاء لطلب العلم، ونزعت إلى حبّ الأدب، وأنفت من حال الجهل، وأن تكون في غمار الحشو، ولدخل على هؤلاء من الخلل والمضرّة، ومن الجهل وسوء الحال، وما عسى ألا يمكن الإخبار عن مقداره، إلّا بالكلام الكثير، ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه:«تفقّهوا قبل أن تسودوا»«٢» .
٥٤-[فائدة كتب أبي حنيفة]
وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يعدّ فقيها، ولا يجعل قاضيا، فما هو إلّا أن ينظر في كتب أبي حنيفة، وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمرّ ببابه فتظن أنه من باب بعض العمّال، وبالحرا «٣» ألّا يمرّ عليه من الأيّام إلّا اليسير، حتّى يصير حاكما على مصر من الأمصار، أو بلد من البلدان.
٥٥-[ضرورة تنقيح المؤلفات]
وينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلّا على أنّ النّاس كلّهم له أعداء، وكلّهم عالم بالأمور، وكلّهم متفرّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير، فإنّ لابتداء الكتاب فتنة وعجبا، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة،