بينهم وبين العجز، إلّا بعدم الأعيان، إذ كان العجز صفة من صفات الخلق، ونعتا من نعوت العبيد.
لم يخلق الله تعالى أحدا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه دون الاستعانة ببعض من سخّر له، فأدناهم مسخّر لأقصاهم، وأجلّهم ميسّر لأدقّهم. وعلى ذلك أحوج الملوك إلى السّوقة في باب، وأحوج السّوقة إلى الملوك في باب، وكذلك الغنيّ والفقير، والعبد وسيّده. ثمّ جعل الله تعالى كلّ شيء للإنسان خولا، وفي يده مذلّلا ميسّرا إمّا بالاحتيال له والتلطّف في إراغته واستمالته، وإمّا بالصّولة عليه، والفتك به، وإمّا أن يأتيه سهوا ورهوا. على أنّ الإنسان لولا حاجته إليها، لما احتال لها، ولا صال عليها.
إلّا أنّ الحاجة تفترق في الجنس والجهة والجبلّة، وفي الحظّ والتقدير.
ثمّ تعبّد الإنسان بالتفكّر فيها، والنظر في أمورها، والاعتبار بما يرى، ووصل بين عقولهم وبين معرفة تلك الحكم الشريفة، وتلك الحاجات اللازمة، بالنظر والتفكير، وبالتنقيب والتنقير، والتثبت والتوقّف؛ ووصل معارفهم بمواقع حاجاتهم إليها، وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها بالبيان عنها.
٢٠-[آلة البيان]
وهو البيان الذي جعله الله تعالى سببا فيما بينهم، ومعبّرا عن حقائق حاجاتهم، ومعرّفا لمواضع سدّ الخلّة ورفع الشبهة، ومداواة الحيرة، ولأنّ أكثر الناس عن الناس أفهم منهم عن الأشباح الماثلة، والأجسام الجامدة، والأجرام الساكنة، التي لا يتعرّف ما فيها من دقائق الحكمة وكنوز الآداب، وينابيع العلم، إلّا بالعقل الثاقب اللطيف، وبالنظر التامّ النافذ، وبالأداة الكاملة، وبالأسباب الوافرة، والصبر على مكروه الفكر، والاحتراس من وجوه الخدع. والتحفّظ من دواعي الهوى؛ ولأنّ الشّكل أفهم عن شكله، وأسكن إليه وأصبّ به. وذلك موجود في أجناس البهائم، وضروب السباع. والصبيّ عن الصبيّ أفهم له، وله آلف وإليه أنزع، وكذلك العالم والعالم، والجاهل والجاهل، وقال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا
«١» لأنّ الإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس؛ وعلى قدر ذلك يكون موقع ما يسمع منه.
ثمّ لم يرض لهم من البنيان بصنف واحد، بل جمع ذلك ولم يفرّق، وكثّر ولم