فأجرى الحساب مجرى البيان بالقرآن. وبحسبان منازل القمر، عرفنا حالات المدّ والجزر، وكيف تكون الزيادة في الأهلّة وأنصاف الشهور، وكيف يكون النقصان في خلال ذلك، وكيف تلك المراتب وتلك الأقدار.
٢٣-[فضل الكتابة]
ولولا الكتب المدوّنة والأخبار المخلّدة، والحكم المخطوطة التي تحصّن الحساب وغير الحساب، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النّسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار. ولو تمّ ذلك لحرمنا أكثر النفع؛ إذ كنّا قد علمنا أنّ مقدار حفظ الناس لعواجل حاجاتهم وأوائلها، لا يبلغ من ذلك مبلغا مذكورا ولا يغني فيه غناء محمودا. ولو كلّف عامّة من يطلب العلم ويصطنع الكتب، ألّا يزال حافظا لفهرست كتبه لأعجزه ذلك، ولكلّف شططا، ولشغله ذلك عن كثير ممّا هو أولى به. وفهمك لمعاني كلام الناس، ينقطع قبل انقطاع فهم عين الصوت مجرّدا، وأبعد فهمك لصوت صاحبك ومعاملك والمعاون لك، ما كان صياحا صرفا، وصوتا مصمتا ونداء خالصا، ولا يكون ذلك إلّا وهو بعيد من المفاهمة، وعطل من الدّلالة. فجعل اللفظ لأقرب الحاجات، والصوت لأنفس من ذلك قليلا، والكتاب للنازح من الحاجات. فأمّا الإشارة فأقرب المفهوم منها: رفع الحواجب، وكسر الأجفان، وليّ الشّفاه وتحريك الأعناق، وقبض جلدة الوجه؛ وأبعدها أن تلوى بثوب على مقطع جبل، تجاه عين الناظر، ثمّ ينقطع عملها ويدرس أثرها، ويموت ذكرها، ويصير بعد كلّ شيء فضل عن انتهاء مدى الصوت ومنتهى الطرف، إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوط والكتب. فأيّ نفع أعظم، وأيّ مرفق أعون من الخطّ، والحال فيه كما ذكرنا!! وليس للعقد حظّ الإشارة في بعد الغاية.
٢٤-[فضل القلم واللسان]
فلذلك وضع الله عزّ وجلّ القلم في المكان الرفيع، ونوّه بذكره في المنصب الشريف حين قال ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
«١» فأقسم بالقلم كما أقسم بما يخطّ بالقلم؛ إذ كان اللسان لا يتعاطى شأوه، ولا يشقّ غباره ولا يجري في حلبته، ولا يتكلف بعد غايته. لكن لما أن كانت حاجات الناس بالحضرة «٢» أكثر من حاجاتهم