والعامّة تحكم أنّ حاتما أجود العرب «١» ، ولو قدّمته على هرم الجواد لما اعترضته عليهم «٢» . ولكنّ الذي يحدّث به عن حاتم، لا يبلغ مقدار ما رووه عن كعب بن مامة، لأنّ كعبا بذل نفسه في أعطية الكرم وبذل المجهود فساوى حاتما من هذه الوجه «٣» ، وباينه ببذل المهجة.
ونحن نقول: إنّ الأشعار الصحيحة بها المقدار الذي يوجب اليقين بأنّ كعبا كان كما وصفوا. فلو لم يكن الأمر في هذا إلى الجدود والحظوظ والاتفاقات، وإلى علل باطنة تجري الأمور عليها، وفي الغوص عليها وفي معرفتها بأعيانها عسر، لما جرت الأمور على هذه المجاري، ولو كان الأمر فيها مفوّضا إلى تقدير الرأي، لكان ينبغي لغالب بن صعصعة أن يكون من المشهورين بالجود، دون هرم وحاتم.
٢١٩-[كلف العامة بمآثر الجاهلية]
فإن زعمت أنّ غالبا كان إسلاميّا وكان حاتم في الجاهلية. والناس بمآثر العرب في الجاهليّة أشدّ كلفا، فقد صدقت. وهذا أيضا ينبئك أنّ الأمور في هذا على خلاف تقدير الرأي، وإنّما تجري في الباطن على نسق قائم، وعلى نظر صحيح، وعلى تقدير محكم، فقد تقدّم في تعبيتهما «٤» وتسويتهما من لا تخفى عليه خافية، ولا يفوته شيء ولا يعجزه، وإلّا فما بال أيّام الإسلام ورجالها. لم تكن أكبر في النفوس، وأحلّ في الصدور من رجال الجاهليّة، مع قرب العهد وعظم خطر ما ملكوا، وكثرة ما جادت به أنفسهم، ومع الإسلام الذي شملهم، وجعله الله تعالى أولى بهم من أرحامهم.
ولو أنّ جميع مآثر الجاهليّة وزنت به، وبما كان في الجماعات اليسيرة من رجالات قريش في الإسلام لأربت هذه عليها، أو لكانت مثلها.