الناس ليسوا لشيء من اللّحمان أشدّ أكلا ولا أشدّ عجبا به منكم، ولا أصلح لأبدانهم ولا أغذى لهم من لحوم هذه الأنعام أفتائها ومسانّها.
١٨٠-[عود إلى القول في الديك والكلاب]
وقال صاحب الديك: ما يشبه عود الماشية في الجرّة، ورجوعها في الفرث تطحنه وتسيغه، الرجوع في القيء. وقد زعمتم أنّ جرّة البعير أنتن من قيء الكلاب لطول غبوبها في الجوف، وانقلابها إلى طباع الزّبل، وأنّها أنتن من الثلط. وإنّما مثل الجرّة مثل الرّيق الذي ذكره ابن أحمر فقال:[من البسيط]
هذا الثناء وأجدر أن أصاحبه ... وقد يدوّم ريق الطّامع الأمل «١»
فإنّما مثل القيء مثل العذرة؛ لأنّ الرّيق الذي زعمتم، ما دام في فم صاحبه، ألذّ من السلوى، وأمتع من النسيم، وأحسن موقعا من الماء البارد من العطاش المسهوم.
والريق كذلك ما لم يزايل موضعه، ومتى زايل فم صاحبه إلى بعض جلده اشتدّ نتنه وعاد في سبيل القيء.
فالرّيق والجرّة في سبيل واحد، كما أنّ القيء والعذرة في سبيل واحد. ولو أن الكلب قلس حتّى يمتلئ منه فمه، ثم رجع فيه من غير مباينة له، لكان في ذلك أحقّ بالنظافة من الأنعام في جرّتها، وحشيّها وأهليّها، وإنّ الأرانب لتحيض حيضا نتنا، فما عاف لحمها أصحاب التّقذّر لمشاركتها الأنعام في الجرّة.
فقال صاحب الكلب: أمّا ما عبتموه من أكل العذرة، فإنّ ذلك عامّ في الماشية المتخيّر لحمها على اللّحمان، لأنّ الإبل والشياه كلّها جلّالة وهنّ على يابس ما يخرج من الناس أحرص؛ وعلى أنها إذا تعوّدت أكل ما قد جفّ ظاهره وداخله رطب، رجع أمرها إلى ما عليه الكلب. ثم الدّجاج لا ترضى بالعذرة، وبما يبقى من الحبوب التي لم يأت عليها الاستمراء والهضم، حتّى تلتمس الديدان التي فيها، فتجمع نوعين من العذرة لأنها إذا أكلت ديدان العذرة فقد أتت على النّوعين جميعا. ولذلك قال عبد الرحمن بن الحكم في هجائه الأنصار بخبيث الطعام، فضرب المثل بالدّجاج من بين جميع الحيوان، وترك ذكر الكلاب وهي له معرضة فقال:[من الوافر]
وللأنصار آكل في قراها ... لخبث الأطعمات من الدّجاج