التأدّم بهما والوقود بشجرهما، وما أشبه ذلك من أمرهما- فقد أسأت ظنّا بالقرآن، وجهلت فضل التأويل. وليس لهذا المقدار عظّمهما الله عزّ وجلّ، وأقسم بهما ونوّه بذكرهما.
١٦٦-[التأمل في جناح البعوضة]
ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأمّلته تأمّل متفكّر بعد أن تكون ثاقب النّظر سليم الآلة، غوّاصا على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلّا على حسب صحّة عقلك، ولا من الشواغل إلّا ما زاد في نشاطك، لملأت ممّا توجدك العبرة من غرائب الطوامير الطّوال، والجلود الواسعة الكبار، ولرأيت أنّ له من كثرة التصرّف في الأعاجيب، ومن تقلّبه في طبقات الحكمة، ولرأيت له من الغزر والرّيع، ومن الحلب والدّرّ ولتبجّس عليك من كوامن المعاني ودفائنها، ومن خفيّات الحكم وينابيع العلم، ما لا يشتدّ معه تعجّبك ممّن وقف على ما في الدّيك من الخصال العجيبة، وفي الكلب من الأمور الغريبة، ومن أصناف المنافع، وفنون المرافق؛ وما فيهما من المحن الشّداد، ومع ما أودعا من المعرفة، التي متى تجلّت لك تصاغر عندك كبير ما تستعظم، وقلّ في عينك كثير ما تستكثر. كأنّك تظنّ أنّ شيئا وإن حسن عندك في ثمنه ومنظره، أنّ الحكمة التي هي في خلقه إنّما هي على مقدار ثمنه ومنظره.
١٦٧-[كلمات الله]
وقد قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ
«١» والكلمات في هذا الموضع، ليس يريد بها القول والكلام المؤلّف من الحروف، وإنّما يريد النّعم والأعاجيب، والصفات وما أشبه ذلك، فإنّ كلّا من هذه الفنون لو وقف عليه رجل رقيق اللسان صافي الذهن، صحيح الفكر تامّ الأداة، لما برح أن تحسره المعاني وتغمره الحكم.
١٦٨-[الموازنة والمقابلة بين نوعين]
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجلّة العظماء في التمثيل بين الملائكة والمؤمنين، وفي فرق ما بين الجنّ والإنس. وطباع الجنّ أبعد من طباع الإنس، ومن طباع الديك، ومن طباع الكلب. وإنّما ذهبوا إلى الطاعة والمعصية. ويخيّل إليّ أنك لو كنت سمعتهما يمثّلان ما بين التّدرج والطاوس، لما اشتدّ تعجّبك. ونحن نرى أنّ