للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنصاف حبّ الكزبرة ينبت من بين جميع الحبوب. فهي على هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوان، حتّى ربّما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس.

ولها، مع لطافة شخصها وخفّة وزنها، وفي الشمّ والاستراوح ما ليس لشيء.

وربّما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد، فتسقط من يده الواحدة أو صدر الواحدة، وليس يرى بقربه ذرّة ولا له بالذّرّ عهد في ذلك المنزل، فلا يلبث أن تقبل ذرّة قاصدة إلى تلك الجرادة، فترومها وتحاول قلبها ونقلها، وسحبها وجرّها، فإذا أعجزتها بعد أن بلغت عذرا، مضت إلى جحرها راجعة، فلا يلبث ذلك الإنسان أن يراها قد أقبلت، وخلفها صويحباتها كالخيط الأسود الممدود، حتى يتعاونّ عليها فيحملنها.

فأوّل ذلك صدق الشّمّ لما لا يشمّه الإنسان الجائع. ثمّ بعد الهمّة، والجراءة على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرّة، وأكثر من مائة مرّة.

وليس شيء من الحيوان يقوى على حمل ما يكون ضعف وزنه مرارا غيرها.

وعلى أنها لا ترضى بأضعاف الأضعاف، إلّا بعد انقطاع الأنفاس.

٩٤٦-[كلام النمل]

فإن قلت: وما علّم الرّجل أنّ الّتي حاولت نقل الجرادة فعجزت، هي التي أخبرت صويحباتها من الذّرّ، وأنها كانت على مقدّمتهن؟ قلنا: لطول التّجربة، ولأنّا لم نر ذرّة قط حاولت نقل جرادة فعجزت عنها، ثمّ رأيناها راجعة، إلّا رأينا معها مثل ذلك، وإن كنّا لا نفصل في العين بينها وبين أخواتها، فإنّه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا. وعلى أنّنا لم نر ذرّة قطّ حملت شيئا أو مضت إلى جحرها فارغة، فتلقاها ذرّة، إلّا واقفتها ساعة وخبّرتها بشيء. فدلّ ذلك على أنّها في رجوعها عن الجرادة، إنّما كانت لأشباهها كالرّائد لا يكذب أهله [١] .

ومن العجب أنّك تنكر أنّها توحي إلى أختها بشيء، والقرآن قد نطق بما هو أكثر من ذلك أضعافا. وقال رؤبة بن العجّاج [٢] : [من الرجز]

لو كنت علّمت كلام الحكل ... علم سليمان كلام النّمل [٣]


[١] في مجمع الأمثال ٢/٢٣٣، وجمهرة الأمثال ١/٤٧٤: «الرائد لا يكذب أهله» .
[٢] ديوان رؤبة ١٣١، واللسان والتاج (حكل، فطحل) ، والجمهرة ٥٦٢، والتهذيب ٤/١٠١، والمجمل ٢/٩٤، وبلا نسبة في المخصص ٢/١٢٢، والمقاييس ٢/٩١، وديوان الأدب ١/١٥٨.
[٣] الحكل: ما لا يسمع له صوت كالذر والنمل. «اللسان: حكل» .

<<  <  ج: ص:  >  >>