الرجوع، والأنفة من الخضوع؛ وعن جميع ذلك تحدث الضغائن، ويظهر التباين. وإذا كانت القلوب على هذه الصّفة وعلى هذه الهيئة، امتنعت من التعرّف، وعميت عن مواضع الدلالة، وليست في الكتب علّة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجّة، لأنّ المتوحّد بدرسها، والمنفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله، وقد عدم من له يباهي ومن أجله يغالب «١» .
٥١-[الكتاب قد يفضل الكاتب]«٢»
والكتاب قد يفضل صاحبه، ويتقدّم مؤلّفه، ويرجّح قلمه على لسانه بأمور:
منها أنّ الكتاب يقرأ بكلّ مكان، ويظهر ما فيه على كلّ لسان، ويوجد مع كلّ زمان، على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع في المسألة والجواب. ومناقلة اللسان وهدايته لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته. وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره.
ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سيرها، حتّى شاهدنا بها ما غاب عنّا، وفتحنا بها كلّ مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلّا بهم، لما حسن حظّنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة. ولو لجأنا إلى قدر قوّتنا، ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسّنا، وتشاهده نفوسنا، لقلّت المعرفة، وسقطت الهمّة، وارتفعت العزيمة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر فاسدا، ولكلّ الحدّ وتبلّد العقل.
٥٢-[أشرف الكتب]
وأكثر من كتبهم نفعا، وأشرف منها خطرا، وأحسن موقعا، كتب الله تعالى، فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كلّ حكمة، وتعريف كلّ سيّئة وحسنة. وما زالت كتب الله تعالى في الألواح والصّحف، والمهارق «٣» والمصاحف. وقال الله عزّ وجلّ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ