كلّ ما هو بسبيله، ما لا يبلغه ذو الرّويّة التامّة، والمنطق البليغ، وأنّ منها ما يكون ألطف مدخلا، وأدقّ مسلكا، وأصنع كفّا، وأجود حنجرة، وأطبع على الأصوات الموزونة، وأقوم في حفظ ما يعيشه طريقة، إلّا أنّ ذلك منها مفرّق غير مجموع، ومنقطع غير منظوم.
والإنسان ذو العقل والاستطاعة، والتصرّف والرويّة، إذا علم علما غامضا، وأدرك معنى خفيا، لم يكد يمتنع عليه ما دونه إذا قاس بعض أمره على بعض.
وأجناس الحيوان قد يعلّم بعضها علما، ويصنع بكفّه صنعة يفوق بها الناس، ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبع ولا رويّة، وعلى أنّ الذي عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قدر عليه.
[[ما جاء في الفيلة]]
وأنا ذاكر إن شاء الله، ما جاء في الفيلة من عجيب التركيب، وغريب التأليف، والمعارف الصّحيحة، والأحساس اللطيفة، وفي قبولها التّثقيف والتّأديب، وسرعتها إلى التلقين والتّقويم، وما في أبدانها من الأعضاء الكريمة، والأجزاء الشريفة، وكم مقدار منافعها، ومبلغ مضارّها، وبكم فضلت أجناس الحيوان، وفاقت تلك الأجناس.
وما جعل الله تعالى فيها من الآيات والبرهانات، والعلامات النيّرات، التي جلاها لعيون خلقه وعرّف بينها وبين عقول عباده، وقيّدها عليهم، وحفظها لهم ليكثّر لهم من الأدلة، ويزيدهم في وضوح الحجّة، ويسخّرهم لتمام النّعمة، والذي ذكرها الله به في الكتاب الناطق، والخبر الصادق، وما في الآثار المعروفة، والأمثال المضروبة، والتجارب الصحيحة.
وما قالت فيها الشعراء، ونطقت به الخطباء، وميّزته العلماء، وعجّبت منه الحكماء، وحالها عند الملوك وموضع نفعها في الحروب، ومهابتها في العيون، وجلالتها في الصّدور، وفي طول أعمارها، وقوّة أبدانها، وفي اعتزامها وتصميمها، وأحقادها، وشدّة اكتراثها، وطلبها بطوائلها، وارتفاعها عن ملك السّقّاط والحشوة، وعن اقتناء الأنذال والسّفلة، وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها على الخسف، وابتذالها وإذالتها، وعن امتناع طبائعها، وتمنّع غرائزها أن تصلح أبدانها، وتنبت أنيابها، وتعظم جوارحها، وتتسافد وتتلاقح إلّا في معادنها وبلادها، وفي منابتها ومغارس أعراقها، مع التماس الملوك ذلك منها، حتى أعجزت الحيل، وخرجت من حدّ الطّمع.