أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كلّ إبّان، من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنّه وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجبية والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، ومن الإخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتنازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة، ما يجمع لك الكتاب. قال الله عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
«١» فوصف نفسه، تبارك وتعالى، بأن علّم بالقلم، كما وصف نفسه بالكرم، واعتدّ بذلك في نعمه العظام، وفي أياديه الجسام. وقد قالوا:«القلم أحد اللسانين» ، وقالوا:«كلّ من عرف النّعمة في بيان اللسان، كان بفضل النّعمة في بيان القلم أعرف» . ثمّ جعل هذا الأمر قرآنا، ثمّ جعله في أوّل التنزيل ومستفتح الكتاب.
١٩-[حاجة بعض الناس إلى بعض]
ثمّ اعلم، رحمك الله تعالى، أنّ حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم- ممّا يعيشهم ويحييهم، ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون في درك ذلك، والتوازر عليه- كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما يضرّهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى، معان متضمّنة، وأسباب متّصلة، وحبال منعقدة. وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا؛ ولذلك تقدّمت في كتب الله البشارات بالرّسل، ولم يسخّر لهم جميع خلقه، إلّا وهم يحتاجون إلى الارتفاق بجميع خلقه. وجعل الحاجة حاجتين:
إحداهما قوام وقوت، والأخرى لذّة وإمتاع وازدياد في الآلة، وفي كلّ ما أجذل النفوس، وجمع لهم العتاد. وذلك المقدار من جميع الصّنفين وفق لكثرة حاجاتهم وشهواتهم، وعلى قدر اتّساع معرفتهم وبعد غورهم، وعلى قدر احتمال طبع البشريّة وفطرة الإنسانيّة. ثم لم يقطع الزيادة إلا لعجز خلقهم عن احتمالها، ولم يجز أن يفرق