الصفراء وهي من نتاج النار، وفيه السوداء وهي من نتاج الأرض، وفيه الدّم وهو من نتاج الهواء، وفيه البلغم وهو من نتاج الماء. وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة. فجعلوه العالم الصغير، إذ كان فيه جميع أجزائه وأخلاطه وطبائعه. ألا ترى أنّ فيه طبائع الغضب والرضا، وآلة اليقين والشكّ، والاعتقاد والوقف وفيه طبائع الفطنة والغباوة، والسلامة والمكر، والنصيحة والغشّ، والوفاء والغدر، والرياء والإخلاص، والحبّ والبغض، والجدّ والهزل، والبخل والجود، والاقتصاد والسّرف، والتواضع والكبر، والأنس والوحشة، والفكرة والإمهال، والتمييز والخبط، والجبن والشجاعة، والحزم والإضاعة، والتبذير والتقتير، والتبذل والتعزز، والادّخار والتوكّل، والقناعة والحرص، والرغبة والزّهد، والسّخط والرّضا، والصبر والجزع، والذّكر والنسيان، والخوف والرجاء، والطّمع واليأس، والتنزّه والطبع، والشكّ واليقين، والحياء والقحة، والكتمان والإشاعة، والإقرار والإنكار، والعلم والجهل، والظلم والإنصاف، والطلب والهرب، والحقد وسرعة الرضا، والحدّة وبعد الغضب، والسّرور والهمّ، واللّذّة والألم، والتأميل والتمنّي، والإصرار والنّدم، والجماح والبدوات، والعيّ والبلاغة، والنّطق والخرس، والتصميم والتوقف، والتغافل والتفاطن، والعفو والمكافأة، والاستطاعة والطبيعة، وما لا يحصى عدده، ولا يعرف حدّه.
فالكلب سبع وإن كان بالناس أنيسا، ولا تخرجه الخصلة والخصلتان ممّا قارب بعض طبائع الناس، إلى أن يخرجه من الكلبيّة. قال: وكذلك الجميع. وقد عرفت شبه باطن الكلب بباطن الإنسان، وشبه ظاهر القرد بظاهر الإنسان: ترى ذلك في طرفه وتغميض عينه، وفي ضحكه وفي حكايته، وفي كفّه وأصابعه، وفي رفعها ووضعها، وكيف يتناول بها، وكيف يجهز اللّقمة إلى فيه وكيف يكسر الجوز ويستخرج لبّه وكيف يلقن كل ما أخذ به وأعيد عليه، وأنّه من بين جميع الحيوان إذا سقط في الماء غرق مثل الإنسان، ومع اجتماع أسباب المعرفة فيه يغرق، إلّا أن يكتسب معرفة السباحة، وإن كان طبعه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلّ. وكلّ شيء فهو يسبح من جميع الحيوانات، ممّا يوصف بالمعرفة والفطنة، وممّا يوصف بالغباوة والبلادة؛ وليس يصير القرد بذلك المقدار من المقاربة إلى أن يخرج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان.
١٧١-[عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك]
وزعمت أنّ ممّا يمنع من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارس محترس منه.