اللغة وتلك العادة؛ فإذا دخلت على هذا الأمر- الذي إنما أضحك بسخفه وبعض كلام العجميّة التي فيه- حروف الإعراب والتحقيق والتثقيل وحوّلته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء، وأهل المروءة والنجابة انقلب المعنى مع انقلاب نظمه، وتبدّلت صورته.
٢١٤-[عود إلى الحديث عن الكلب]
ثم قال أبو إسحاق: إن أطعمه اللصّ بالنهار كسرة خبز خلّاه، ودار حوله ليلا.
فهو في هذا الوجه مرتش وآكل سحت «١» ؛ وهو مع ذلك أسمج الخلق صوتا، وأحمق الخلق يقظة ونوما، وينام النّهار كله على نفس الجادّة، وعلى مدقّ الحوافر، وفي كل سوق وملتقى طريق، وعلى سبيل الحمولة وقد سهر الليل كله بالصياح والصّخب، والنّصب والتّعب، والغيظ والغضب، وبالمجيء والذّهاب، فيركبه من حبّ النوم على حسب حاجته إليه، فإن وطئته دابّة فأسوأ الخلق جزعا وألأمه لؤما، وأكثره نباحا وعواء، فإن سلم ولم تطأه دابّة ولا وطئه إنسان، فليست تتمّ له السلامة؛ لأنّه في حال متوقّع للبليّة. ومتوقّع البليّة في بليّة. فإن لم يسلم فليس على ظهرها مبتلى أسوأ حالا منه؛ لأنّه أسوؤهم جزعا، وأقلّهم صبرا، ولأنّه الجاني ذلك على نفسه، وقد كانت الطّرق الخالية له معرضة، وأصول الحيطان مباحة.
وبعد فإنّ كلّ خلق فارق أخلاق النّاس فإنّه مذموم. والناس ينامون بالليل الذي جعله الله تعالى سكنا، وينتشرون بالنّهار الذي جعله الله تعالى لحاجات الناس مسرحا.
قال صاحب الكلب: لو شئنا أن نقول: إنّ سهره بالليل ونومه بالنهار خصلة ملوكيّة لقلنا، ولو كان خلاف ذلك ألذّ لكانت الملوك بذلك أولى. وأمّا الذي أشرتم به من النوم في الطرق الخالية، وعبتموه به من نومه على شارعات الطّرق والسّكك العامرة وفي الأسواق الجامعة، فكلّ امرئ أعلم بشأنه. ولولا أنّ الكلب يعلم ما يلقى من الأحداث والسّفهاء وصبيان الكتّاب، من رضّ عظامه بألواحهم إذا وجدوه نائما في طريق خال ليس بحضرته رجال يهابون، ومشيخة يرحمون ويزجرون السفهاء، وأنّ ذلك لا يعتريه في مجامع الأسواق- لقلّ خلافه عليك، ولما رقد في الأسواق. وعلى أنّ هذا الخلق إنّما يعتري كلاب الحرّاس، وهي التي في الأسواق مأواها ومنازلها.