وكانت تصل العجز بالكفاية، والمؤونة بالكلفة. وكانت تقول: لا تورثوا الابن من المال، إلّا ما يكون عونا له على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة، ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنّه العدّة والعتاد، وأنّه أكرم مستفاد.
وكانوا يقولون: لا تورّثوا الابن من المال إلّا ما يسد الخلة، ويكون له عونا على درك الفضول، إن كان لا بدّ من الفضول؛ فإنّه إن كان فاسدا زادت تلك الفضول في فساده، وإن كان صالحا كان فيما أورثتموه من العلم وبقّيتم له من الكفاية، ما يكسبه الحال، فإن الحال أفضل من المال، ولأنّ المال لم يزل تابعا للحال. وقد لا يتبع الحال المال. وصاحب الفضول بعرض فساد، وعلى شفا إضاعة، مع تمام الحنكة، واجتماع القوّة، فما ظنّكم بها مع غرارة الحداثة، وسوء الاعتبار، وقلة التجربة.
وكانوا يقولون: خير ميراث ما أكسبك الأركان الأربعة، وأحاط بأصول المنفعة، وعجّل لك حلاوة المحبة، وبقّى لك الأحدوثة الحسنة، وأعطاك عاجل الخير وآجله، وظاهره وباطنه.
وليس يجمع ذلك إلّا كرام الكتب النفيسة، المشتملة على ينابيع العلم، والجامعة لكنوز الأدب، ومعرفة الصناعات، وفوائد الأرفاق، وحجج الدين الذي بصحته، وعند وضوح برهانه، تسكن النفوس، وتثلج الصدور. ويعود القلب معمورا، والعزّ راسخا، والأصل فسيحا.
وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتداويه وتصلحه، وتهذبه.
ووراثة الكتب الشريفة، والأبواب الرفيعة، منبهة للمورّث، وكنز عند الوارث، إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة، ولا حقّ السلطان. وإذا كانت الكنوز جامدة، ينقصها ما أخذ منها، كان ذلك الكنز مائعا يزيده ما أخذ منه، ولا يزال بها المورّث مذكورا في الحكماء ومنوّها باسمه في الأسماء، وإماما متبوعا وعلما منصوبا، فلا يزال الوارث محفوظا، ومن أجله محبوبا ممنوعا، ولا تزال تلك المحبّة نامية، ما كانت تلك