فيه من الرويّة، ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السّفلة والحشو، ويحطّه من غريب الأعراب ووحشيّ الكلام، وليس له أن يهذّبه جدّا، وينقّحه ويصفّيه ويروّقه، حتى لا ينطق إلّا بلبّ اللّبّ، وباللفظ الذي قد حذف فضوله، وأسقط زوائده، حتّى عاد خالصا لا شوب فيه؛ فإنّه إن فعل ذلك، لم يفهم عنه إلا بأن يجدّد لهم إفهاما مرارا وتكرارا، لأنّ النّاس كلّهم قد تعوّدوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها. ألا ترى أنّ كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم، لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب، لما فهموا أكثره، وفي كتاب إقليدس كلام يدور، وهو عربيّ وقد صفّي، ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه، ولا يمكن أن يفهّمه من يريد تعليمه، لأنّه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر، وتعوّد اللفظ المنطقيّ الذي استخرج من جميع الكلام.
٥٩-[قول صحار العبدي في الإيجاز]
قال معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، لصحار العبدي: ما الإيجاز؟ قال:
أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ. قال معاوية: أو كذلك تقول!! قال صحار:
أقلني يا أمير المؤمنين! لا تخطئ ولا تبطئ «١» .
فلو أنّ سائلا سألك عن الإيجاز، فقلت: لا تخطئ ولا تبطئ، وبحضرتك خالد بن صفوان، لما عرف بالبديهة وعند أوّل وهلة، أنّ قولك «لا تخطئ» متضمّن بالقول، وقولك «لا تبطئ» متضمّن بالجواب. وهذا حديث كما ترى آثروه ورضوه، ولو أن قائلا قال لبعضنا: ما الإيجاز؟ لظننت أنّه يقول: الاختصار.
والإيجاز ليس يعنى به قلّة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار فقد أوجز، وكذلك الإطالة، وإنّما ينبغي له أن يحذف بقدر ما لا يكون سببا لإغلاقه، ولا يردّد وهو يكتفي في الإفهام بشطره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل.
٦٠-[صعوبة كتب الأخفش]
وقلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنّحو، فلم لا تجعل كتبك