فقلت للمكّيّ: أحسب الذبّان يموت في كل أربعين يوما، وإن شئت ففي أكثر، وإن شئت ففي أقلّ. ونحن كما ترى ندوسها بأرجلنا، ونحن هاهنا مقيمون من أكثر من أربعين يوما، بل منذ أشهر وأشهر، وما رأينا ذبابا واحدا ميّتا. فلو كان الأمر على ذلك لرأينا الموتى كما رأينا الأحياء. قال: إنّ الذّبابة إذا أرادت أن تموت ذهبت إلى بعض الخربات، قلت: فإنّا قد دخلنا كلّ خربة في الدّنيا، ما رأينا فيها قط ذبابا ميّتا.
٧٨١-[نوادر للمكي]
وكان المكّيّ طيّبا طيّب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل وكان يدّعي كلّ شيء على غاية الإحكام، ولم يحكم شيئا قطّ، لا من الجليل ولا من الدّقيق. وإذ قد جرى ذكره فسأحدّثك ببعض أحاديثه، وأخبرك عن بعض علله، لتلهّى بها ساعة، ثم نعود إلى بقية ذكر الذّبّان.
ادّعى هذا المكّيّ البصر بالبراذين، ونظر إلى برذون واقف، قد ألقى صاحبه في فيه اللّجام، فرأى فأس اللّجام وأين بلغ منه، فقال لي: العجب! كيف لا يذرعه القيء، وأنا لو أدخلت إصبعي الصغرى في حلقي لما بقي في جوفي شيء إلّا خرج؟!! قلت:
الآن علمت أنّك تبصر! ثمّ مكث البرذون ساعة يلوك لجامه، فأقبل عليّ فقال لي:
كيف لا يبرد أسنانه؟! قلت: إنما يكون علم هذا عند البصراء مثلك! ثمّ رأى البرذون كلّما لاك اللّجام والحديدة سال لعابه على الأرض فأقبل عليّ وقال: لولا أنّ البرذون أفسد الخلق عقلا لكان ذهنه قد صفا! قلت له: قد كنت أشك في بصرك بالدّوابّ، فأمّا بعد هذا فلست أشكّ فيه! وقلت له مرّة ونحن في طريق بغداد: ما بال الفرسخ في هذه الطريق يكون فرسخين، والفرسخ يكون أقلّ من مقدار نصف فرسخ؟! ففكّر طويلا ثمّ قال: كان كسرى يقطع للنّاس الفراسخ، فإذا صانع صاحب القطيعة زادوه، وإذا لم يصانع نقصوه! وقلت له مرّة: علمت أنّ الشاري حدّثني أنّ المخلوع بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم؛ كأنّه يخبر أنّ عندّه من الجند بعدد ذلك الحبّ وأنّ المأمون بعث إليه بديك أعور، يريد أنّ طاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلّهم، كما يلقط الدّيك الحبّ! قال: فإنّ هذا الحديث أنا ولّدته. ولكن انظر كيف سار في الآفق؟! وأحاديثه وأعاجيبه كثيرة.