للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو كان للكلب آلة يعرف بها عواقب الأمور وحوادث الدهور، وكان يوازن بين عواجلها وأواجلها، وكان يعرف مصادرها ومواردها، ويختار أنقص الشرّين وأتمّ الخيرين، ويتثبّت في الأمور، ويخاف العيب ويأخذ بحجّة ويعطي بحجّة، ويعرف الحجّة من الشّبهة، والثّقة من الرّيبة، ويتثّبت في العلّة، ويخاف زيغ «١» الهوى وسرف الطبيعة، لكان من كبار المكلّفين ومن رؤوس الممتحنين.

٣٥٢-[الموازنة بين الأشياء لدى العاقلين]

والعادة القائمة، والنّسق الذي لا يتخطّى ولا يغادر، والنظام الذي لا ينقطع ولا يختلط، في ذوي التمكين والاستطاعة، وفي ذوي العقول والمعرفة، أنّ أبدانهم متّى أحسّت بأصناف المكروه والمحبوب، وازنوا وقابلوا، وعايروا وميّزوا بين أتمّ الخيرين وأنقص الشرّين، ووصلوا كلّ مضرة ومنفعة في العاجل بكلّ مضرّة ومنفعة في الآجل وتتبعوا مواقعها، وتدبّروا مساقطها، كما يتعرّفون مقاديرها وأوزانها، واختاروا بعد ذلك أتمّ الخيرين وأنقص الشّرين. فأما الشر صرفا والخير محضا فإنّهم لا يتوقّفون عندهما، ولا يتكلّفون الموازنة بينهما، وإنّما ينظرون في الممزوج وفي بعض ما يخشى في معارضته، ولا يوثق بمعرّاه ومكشّفه، فيحملونه على خلاص الذّهن، كما يحمل الذّهب على الكير «٢» .

وأمّا ذوات الطّبائع المسخّرة والغريزة المحبولة فإنما تعمل من جهة التسخير والتنبيه، كالسمّ الذي يقتل بالكمّيّة ولا يغذو، وكالغذاء الذي يغذو ويقتل بالمجاوزة لمقدار الاحتمال.

وإن هيّأ الله عزّ وجلّ أصناف الحيوان المسخّرة لدرك ما لا تبلغه العقول اللطيفة، بلغته بغير معاناة ولا رويّة ولا توقّف، ولا خوف من عاقبة.

ومتى تقدّمت إلى الأمور التي يعالجها أهل العقول المبسوطة، المتمكّنة بطبائعها، المقصورة غير المبسوطة، لم يمكنها أن تعرف من تلك الطبيعة ما كان موازيا لتلك الأمور ببديهة ولا فكرة. وإذا كانت كذلك فليس بواجب أن تكون كلّما أحسنت أمرا أمكنها أن تحسن ما كان في وزنه في الغموض والإلطاف، وفي الصّنعة التي لا تمكن، إلّا بحسن التأتّي وببعد الرويّة، وبمقابلة الأمور بعضها ببعض. وهذا الفنّ لا يصاب إلّا عند من جهته العقل، ويمكنه الاستدلال، والكفّ عنه والقطع له

<<  <  ج: ص:  >  >>