وبعد فمن أخطأ وأظلم ممّن يكلّف السباع أخلاق الناس وعادات البهائم!! وقد علمنا أنّ سباع الأرض عن آخرها إنّما تهيج وتسرح وتلتمس المعيشة وتتلاقى على السفاد والعظال ليلا؛ لأنها تبصر بالليل.
٢١٥-[سبب اختيار الليل للنوم]
وإنما نام الناس بالليل عن حوائجهم، لأنّ التمييز والتفصيل والتبيّن لا يمكنهم إلّا نهارا، وليس للمتعب المتحرّك بدّ من سكون يكون جماما له. ولولا صرفهم التماس الجمام إلى الوقت الذي لو لم يناموا فيه والوقت مانع من التمييز والتبيّن، لكانت الطبائع تنتقض. فجعلوا النّوم بالليل لضربين: أحدهما لأنّ الليل إذ كان من طبعه البرد والرّكود والخثورة، كان ذلك أنزع إلى النوم وما دعا إليه، لأنّه من شكله.
وأمّا الوجه الآخر فلأنّ الليل موحش مخوف الجوانب من الهوامّ والسباع، ولأنّ الأشياء المبتاعة والحاجات إلى تمييز الدنانير، والدراهم، والحبوب، والبزور، والجواهر، وأخلاط العطر، والبربهار «١» وما لا يحصى عدده، فقادتهم طبائعهم وساقتهم غرائزهم إلى وضع النوم في موضعه، والانتشار والتصرف في موضعه على ما قدّر الله تعالى من ذلك وأحبّه. وأمّا السباع فإنها تتصرّف وتبصر بالليل، ولها أيضا علل أخرى يطول ذكرها.
٢١٦-[نوم الملوك]
وأمّا ما ذكرتموه من نوم الملوك بالنّهار وسهرهم بالليل، فإنّ الملوك لم تجهل فضل النوم بالليل والحركة بالنهار، ولكنّ الملوك لكثرة أشغالها فضلت حوائجها عن مقدار النهار ولم يتّسع لها، فلما استعانت بالليل ولم يكن لها بدّ من الخلوة بالتدبير المكتوم والسرّ المخزون، وجمعت المقدار الفاضل عن اتّساع النهار إلى المقدار الذي لا بدّ للخلوة بالأسرار منه؛ أخذت من الليل صدرا صالحا. فلمّا طال ذلك عليها أعانها المران، وخفّ ذلك عليها بالدّربة.
وناس منهم ذهبوا إلى التناول من الشراب وإلى أن سماع الصوت الحسن مما يزيد في المنّة «٢» ، ويكون مادّة للقوة. وعلموا أنّ العوامّ إذا كانت لا تتناول الشّراب