وهذا كما يعتري الذي يصيبه الأسن «١» من البخار المختنق في البئر إذا صار فيها، فإنّه ربّما استقى واستخرج وقد تغيّر عقله. وأصحاب الرّكايا «٢» يرون أنّ دواءه أن يلقوا عليه دثارا ثقيلا، وأن يزمّل تزميلا وإن كان في تموز وآب، ثم يحرس وإن كان قريبا من رأس البئر، فإنّه إن لم يحل بينه وبينها طرح نفسه في تلك البئر، أتاها سعيا في أوّل ما يفتح عينه ويرجع إليه اليسير من عقله، حتى يكفي نفسه فيها من ذات نفسه، في الموضع الذي قد لقي منه ما لقي، وقد كان عنده معلوما أنّ القوم لو تركوه طرفة عين لهلك. هكذا كان عنده أيّام صحّة عقله، فلمّا فسد أراه الفساد أنّ الرّأي في العود إلى ذلك الموضع.
وكما يعتري الممرور «٣» حتّى يرجم النّاس، فإنّ المرّة تصوّر له أن الذي رجمه قد كان يريد رجمه، فيرى أنّ الصّواب أن يبدأه بالرّجم وعلى مثل ذلك تريه المرّة أنّ طرحه نفسه في النّار أجود وأحزم.
وليس في الأرض إنسان يذبح نفسه أو يختنق أو يتردّى في بئر، أو يرمي نفسه من حالق، إلّا من خوف المثلة أو التعذيب أو التعيير وتقريع الشامتين، أو لأنّ به وجعا شديدا فيحرّك عليه المرّة فيحمى لذلك بدنه ويسخن جوفه، فيطير من ذلك شيء إلى دماغه أو قلبه، فيوهمه ذلك أنّ الصّواب في قتل نفسه، وأنّ ذلك هو الرّاحة.
وأنّ الحزم مع الرّاحة.
ولا يختار الخنق الوادع الرابح الرافه، السليم العقل والطّباع. وللغيظ ربّما رمى بنفسه في هذه المهالك، وقذف بها في هذه المهاوي.
وقد يعتري الذي يصعد على مثل سنسيرة أو عقرقوف «٤» أو خضراء زوج، فإنّه يعتريه أن يرمي بنفسه من تلقاء نفسه، فيرون عند ذلك أن يصعد إليه بعض المعاودين المجرّبين، ولا يصنع شيئا حتّى يشدّ عينيه، ويحتال لإنزاله، فهذا المعنى عامّ فيمن كانت طبيعته تثور عند مثل هذه العلّة، وما أكثر من لا يعتريه ذلك.
وقد قال النّاس في عذر هؤلاء ولأنّ فيهم ضروبا من الأقاويل.