وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النّظر فيه، فيتوقّف عند فصوله توقّف من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب، ويتفهّم معنى قول الشاعر:[من البسيط]
إنّ الحديث تغرّ القوم خلوته ... حتّى يلجّ بهم عيّ وإكثار «١»
ويقف عند قولهم في المثل:«كلّ مجر في الخلاء يسرّ»«٢» فيخاف أن يعتريه ما اعترى من أحرى فرسه وحده، أو خلا بعلمه عند فقد خصومه، وأهل المنزلة من أهل صناعته.
٥٦-[الاستطراد في التأليف]
وليعلم أنّ صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدّب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على خمسة أسواط فيضرب مائة؟! لأنّه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع، فأراه السكون أنّ الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرّك دمه، فأشاع فيه الحرارة فزاد في غضبه، فأراه الغضب أنّ الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم؛ فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين، فيكتب عشرة! والحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد.
٥٧-[مفاضلة بين الولد والكتاب]
واعلم أنّ العاقل إن لم يكن بالمتتبّع، فكثيرا ما يعتريه من ولده، أن يحسن في عينه منه المقبّح في عين غيره، فليعلم أنّ لفظه أقرب نسبا منه من ابنه، وحركته أمسّ به رحما من ولده، لأنّ حركته شيء أحدثه من نفسه وبذاته، ومن عين جوهره فصلت، ومن نفسه كانت؛ وإنّما الوالد كالمخطة يتمخّطها، والنّخامة يقذفها، ولا سواء إخراجك من جزئك شيئا لم يكن منك، وإظهارك حركة لم تكن حتّى كانت منك. ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره، وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته.
٥٨-[لغة الكتب]
وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه، حتّى لا يحتاج السامع لما