والاعتبار، وعلى الاتّعاظ والازدجار، وعلى التعرّف والتبيّن، وعلى التوقّف والتذكّر، فجعلها مذكّرة منبّهة، وجعل الفطر تنشئ الخواطر، وتجول بأهلها في المذاهب. ذلك الله ربّ العالمين، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ
«١» .
١٧-[مزج الهزل بالجدّ في الكتاب]
وهذا كتاب موعظة وتعريف وتفقّه وتنبيه. وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده، وتتفكّر في فصوله، وتعتبر آخره بأوله، ومصادره بموارده، وقد غلّطك فيه بعض ما رأيت في أثنائه من مزح لا تعرف معناه، ومن بطالة لم تطّلع على غورها؛ ولم تدر لم اجتلبت، ولا لأيّ علّة تكلّفت، وأيّ شيء أريغ بها، ولأيّ جدّ احتمل ذلك الهزل، ولأيّ رياضة تجشّمت تلك البطالة؛ ولم تدر أنّ المزاح جدّ إذا اجتلب ليكون علّة للجدّ، وأنّ البطالة وقار ورزانة، إذا تكلّفت لتلك العافية. ولمّا قال الخليل بن أحمد: لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه. حتّى يتعلّم ما لا يحتاج إليه، قال أبو شمر: إذا كان لا يتوصّل إلى ما يحتاج إليه إلّا بما لا يحتاج إليه، فقد صار ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه «٢» . وذلك مثل كتابنا هذا؛ لأنّه إن حملنا جميع من يتكلّف قراءة هذا الكتاب على مرّ الحق، وصعوبة الجدّ، وثقل المؤونة، وحلية الوقار، لم يصبر عليه مع طوله إلّا من تجرّد للعلم، وفهم معناه، وذاق من ثمرته، واستشعر قلبه من عزّه، ونال سروره على حسب ما يورث الطول من الكدّ، والكثرة من السآمة. وما أكثر من يقاد إلى حظّه بالسواجير «٣» ، وبالسوق العنيف، وبالإخافة الشديدة.
١٨-[وصف الكتاب]
ثم لم أرك رضيت بالطعن على كلّ كتاب لي بعينه، حتّى تجاوزت ذلك إلى أن عبت وضع الكتب كيفما دارت بها الحال، وكيف تصرفت بها الوجوه. وقد كنت أعجب من عيبك البعض بلا علم، حتّى عبت الكلّ بلا علم، ثم تجاوزت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزت ذلك إلى نصب الحرب فعبت الكتاب؛ ونعم الذخر والعقدة «٤» هو، ونعم الجليس والعدّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم