وأين تقع لذّة البهيمة بالعلوفة، ولذّة السبع بلطع الدّم وأكل اللحم- من سرور الظّفر بالأعداء؛ ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السّودد ومن عزّ الرياسة؟ وأين ذلك من حال النّبوّة والخلافة، ومن عزّهما وساطع نورهما.
وأين تقع لذّة درك الحواسّ الذي هو ملاقاة المطعم والمشرب، وملاقاة الصوت المطرب واللّون المونق، والملمسة الليّنة- من السرور بنفاذ الأمر والنّهي، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة ويلزم من الحجّة؟!.
ولو استوت الأمور بطل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكّل على الله تعالى، واليقين بأنّه الوزر والحافظ، والكالئ والدافع، وأنّ الذي يحاسبك أجود الأجودين، وأرحم الراحمين، وأنه الذي يقبل اليسير ويهب الكثير، ولا يهلك عليه إلّا هالك. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النّظر وما يشحذ عليه «١» ، وما يدعو إليه، ولتعطّلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها.
فسبحان من جعل منافعها نعمة، ومضارّها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسّمها بين ملذّ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير وجليل كبير، وبين عدوّ يرصدك وبين عقيل يحرسك، وبين مسالم يمنعك، وبين معين يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتمّ النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع، قياسا قائما وبرهانا واضحا. فإنّ الجميع إنّما هو واحد ضمّ إلى واحد وواحد ضمّ إليهما، ولأن الكلّ أبعاض، ولأنّ كلّ جثّة فمن أجزاء، فإذا جوّزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن وله مثل علّته وحظّه ونصيبه، فقد جوّزت رفع الجميع؛ لأنّه ليس الأول بأحقّ من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأوّل، والثاني كذلك والثالث والرابع، حتّى تأتي على الكلّ وتستفرغ الجميع. كذلك الأمور المضمّنة والأسباب المقيّدة؛ ألا ترى أنّ الجبل ليس بأدلّ على الله تعالى من الحصاة، وليس الطاوس المستحسن بأدلّ على الله تعالى من الخنزير المستقبح. والنار والثلج وإن اختلفا في جهة البرودة والسّخونة، فإنّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدّلالة.
وأظنّك ممّن يرى أنّ الطاوس أكرم على الله تعالى من الغراب، وأن التّدرج «٢»