للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان أبو ديجونة مولى سليمان، يدّعي غاية الإقدام والشّجاعة والصّرامة، فرأى حفّاثا وهو في طريق مكة، فوجده وقد قتله أعرابيّ، ورآه أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد، فلم يشك إلا أنه أخبت من الأفعى ومن الثعبان، وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببر والنمر في نقاب، فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه، وقال: ما أنا اليوم إلا ذيخ [١] وما ينبغي لمن أحسّ بنفسه مثل الذي أحس أن يرمى في المهالك والمعاطب، وينبغي أن يستبقيها لجهاد أو دفع عن حرمة وحريم يذبّ عنه! وذلك أني هجمت على هذه الحيّة، وقد منعت الرّفاق من السّلوك، وهربت منها الإبل، وأمعن في الهرب عنه كلّ جمّال ضخم الجزارة [٢] ، فهزتني إليه طبيعة الأبطال، فراوغتها حتى وهب الله الظّفر. وكان من البلاء أنها كانت بأرض ملساء ما فيها حصاة، وبصرت بفهر على قاب غلوة، فسعيت إليه- وأنا أسوار كما تعلمون- فو الله ما أخطات حاقّ لهزمته [٣] حتى رزق الله عليه الظّفر. وأبوه والقوم ينظرون في وجهه، وهم أعلم النّاس بضعف الحفّاث، وأنّه لم يؤذ أحدا قط، فقال له أبوه: ارم بهذا من يدك، لعنك الله ولعنه معك، ولعن تصديقي لك ما كنت تدّعيه من الشّجاعة والجراءة! فكبّروا عليه وسمّوه قاتل الأسد.

ومما هجوا به حين يشبّهون الرّجل بالعث، في لؤمه وصغر قدره قول مخارق الطائي، حيث يقول [٤] : [من الوافر]

وإني قد علمت مكان عثّ ... له إبل معبّسة تسوم [٥]

عن الأضياف والجيران عزّت ... فأودت والفتى دنس لئيم [٦]

وإني قد علمت مكان طرف ... أغرّ كأنّه فرس كريم [٧]

له نعم لعام المحل فيها ... ويروى الضّيف، والزّقّ العظيم [٨]


[١] الذيخ: الذكر من الضباع.
[٢] الجزارة: اليدان والرجلان.
[٣] اللهزمة: أصول الحنك.
[٤] الأبيات لعارق الطائي في الوحشيات ٢٥٠.
[٥] معبسة: عبست الإبل: علاها العبس، وهو ما يبس على هلب الذنب والفخذ من البول والبعر، وذلك زمن المرعى، فتسمن ويكون عليها الشحم.
[٦] عزت: منعت عن الأضياف والجيران لعزتها على صاحبها.
[٧] الطرف: الكريم من الرجال.
[٨] الزق: زق الخمر، أي يسقي ضيفه اللبن والخمر.

<<  <  ج: ص:  >  >>