التي لا تعرف حقائقها إلا بالفكرة، وغشّاها من العلامات التي لا تنال منافعها إلا بالعبرة، وكيف فرّق فيها من الحكم العجيبة، والأحساس الدقيقة، والصنعة اللطيفة، وما ألهمها من المعرفة وحشاها «١» من الجبن والجرأة، وبصّرها بما يقيتها ويعيشها، وأشعرها من الفطنة لما يحاول منها عدوّها، ليكون ذلك سببا للحذر، ويكون حذرها سببا للحراسة، وحراستها سببا للسلامة، حتى تجاوزت في ذلك مقدار حراسة المجرّب من الناس، والخائف المطلوب من أهل الاستطاعة والرويّة، كالذي يروى من تحارس الغرانيق والكراكي، وأشكال من ذلك كثيرة، حتى صار الناس لا يضربون المثل إلا بها، ولا يذمّون ولا يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوحش من الطّير وغير ذلك، فقالوا: أحذر من عقعق، وأحذر من غراب، وأحذر من عصفور، وأسمع من فرخ العقاب، وأسمع من قراد، وأسمع من فرس، وأجبن من صفرد، وأسخى من لافظة، وأصنع من تنوّط، وأصنع من سرفة، وأصنع من دبر، وأهدى من قطاة، وأهدى من حمام، وأهدى من جمل، وأزهى من غراب، وأزهى من ذباب، وأجرأ من اللّيث، وأكسب من الذّئب، وأخدع من ضبّ، وأروغ من ثعلب، وأعقّ من ضبّ، وأبرّ من هرّة، وأسرع من سمع، وأظلم من حيّة، وأظلم من ورل، وأكذب من فاختة، وأصدق من قطاة، وأموق من رخمة، وأحزم من فرخ العقاب.
ونبّهنا تعالى وعزّ على هذه المناسبة، وعلى هذه المشاركة، وامتحن ما عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور، وتقديمنا عليها في أكثر الأمور وأراد بذلك ألّا يخلينا من حجة، ومن النّظر إلى عبرة، وإلى ما يعود عند الفكرة موعظة. وكما كره لنا من السهو والإغفال، ومن البطالة والإهمال، في كلّ أحوالنا لا تفتح أبصارنا إلا وهي واقعة على ضرب من الدلالة، وعلى شكل من أشكال البرهانات، وجعل ظاهر ما فيها من الآيات داعيا إلى التفكير فيها، وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يعرف بالتكشيف عنها، فمنها ظاهر يدعوك إلى نفسه، ويشير إلى ما فيه، ومنها باطن يزيدك بالأمور ثقة إذا أفضيت إلى حقيقته، لتعلم أنّك مع فضيلة عقلك، وتصرّف استطاعتك إذا ظهر عجزك عن عمل ما هو أعجز منك- أنّ الذي فضّلك عليه بالاستطاعة والمنطق، هو الذي فضّله عليك بضروب أخر، وأنكما ميسّران لما خلقتما له، ومصرّفان لما سخّرتما له، وأن الذي يعجز عن صنعة السّرفة، وعن تدبير العنكبوت في قلتهما ومهانتهما وضعفهما وصغر جرمهما، لا ينبغي أن يتكبّر في الأرض ولا يمشي الخيلاء، ولا يتهكّم في القول، ولا يتألّى ولا يستأمر. وليعلم أنّ