للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ

[١] ، فأخبر أنّه مبعوث، وأنه هو اختاره لذلك من بين جميع الطّير.

قال صاحب الدّيك: جعلت الدّليل على سوء حاله وسقوطه الدّليل على حسن حاله وارتفاع مكانه. وكلما كان ذلك المقرّع به أسفل كانت الموعظة في ذلك أبلغ.

ألا تراه يقول: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ

[١] .

ولو كان في موضع الغراب رجل صالح، أو إنسان عاقل، لما حسن به أن يقول: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا العاقل الفاضل الكريم الشّريف. وإذا كان دونا وحقيرا فقال: أعجزت وأنا إنسان أن أحسن ما يحسنه هذا الطائر، ثمّ طائر من شرار الطير. وإذا أراه ذلك في طائر أسود محترق، قبيح الشّمائل، رديء المشية، ليس من بهائم الطير المحمودة، ولا من سباعها الشريفة، وهو بعد طائر يتنكّد به ويتطيّر منه، آكل جيف، رديء الصيّد. وكلما كان أجهل وأنذل كان أبلغ في التّوبيخ والتّقريع.

وأمّا قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ

[١] فلم يكن به على جهة الإخبار أنّه كان قتله ليلا، وإنما هو كقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ

[٢] . ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللّفظ دون المستعمل في الكلام من عادات الناس، كان من فرّ من الزّحف ليلا لم يلزمه وعيد.

وإنما وقع الكلام على ما عليه الأغلب من ساعات أعمال الناس، وذلك هو النّهار دون اللّيل.

وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن، حين دفعوا إليه جوّابا الخارجيّ ليقتله، وقالوا: إن قتله برئت الخوارج منه، وإن ترك قتله فقد أبدى لنا صفحته. فتأوّل صالح عند ذلك تأويلا مستنكرا: وذلك أنّه قال: قد نجد التّقيّة تسيغ الكفر، والكفر باللسان أعظم من القتل والقذف بالجارحة. فإذا جازت التقيّة في الأعظم كانت في الأصغر أجوز. فلما رأى هذا التأويل يطّرد له، ووجد على حال بصيرته ناقصة، وأحسّ بأنّه إنما التمس عذرا ولزّق الحجّة تلزيقا فلمّا عزم على قتل جوّاب، وهو عنده واحد الصّفرية في النّسك والفضل قال: إني يوم أقتل جوّابا على هذا الضّرب من التأويل


[١] ٣١/المائدة: ٥.
[٢] ١٦/الأنفال: ٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>