ومثل ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بشره الله بالظّفر وتمام الأمر [١] بشرّ أصحابه بالنّصر، ونزول الملائكة. ولو كانوا لذلك ذاكرين في كلّ حال، لم يكن عليهم من المحاربة مؤونة. وإذا لم يتكلفوا المؤونة لم يؤجروا. ولكنّ الله تعالى بنظره إليهم رفع ذلك في كثير من الحالات عن أوهامهم؛ ليحتملوا مشقّة القتال، وهم لا يعلمون:
أيغلبون أم يغلبون؛ أو يقتلون أم يقتلون.
ومثل ذلك ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن، بعد أن تحدّاهم الرّسول بنظمه. ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه. ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصّة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنّساء وأشباه النساء، ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب، ولكثر القيل والقال.
فقد رأيت أصحاب مسيلمة، وأصحاب ابن النواحة إنما تعلّقوا بما ألّف لهم مسيلمة من ذلك الكلام، الذي يعلم كلّ من سمعه أنّه إنّما عدا على القرآن فسلبه، وأخذ بعضه، وتعاطى أن يقارنه. فكان لله ذلك التّدبير، الذي لا يبلغه العباد ولو اجتمعوا له.
فإن كان الدّهريّ يريد من أصحاب العبادات والرّسل، ما يريد من الدّهريّ الصّرف، الذي لا يقرّ إلا بما أوجده العيان، وما يجري مجرى العيان- فقد ظلم.
وقد علم الدّهريّ أنّنا نعتقد أنّ لنا ربّا يخترع الأجسام اختراعا وأنّه حيّ لا بحياة، وعالم لا بعلم، وأنّه شيء لا ينقسم، وليس بذي طول ولا عرض ولا عمق، وأنّ الأنبياء تحيي الموتى. وهذا كلّه عند الدهريّ مستنكر، وإنما كان يكون له علينا سبيل لو لم يكن الذي ذكرنا جائزا في القياس، واحتجنا إلى تثبيت الرّبوبيّة وتصديق الرّسالة، فإذا كان ذلك جائزا، وكان كونه غير مستنكر، ولا محال، ولا ظلم، ولا عيب، فلم يبق له إلّا أن يسألنا عن الأصل الذي دعا إلى التّوحيد، وإلى تثبيت الرسل.
وفي كتابنا المنزّل الذي يدلّنا على أنّه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدّلائل التي جاء بها من جاء به.
وفيه مسطور أنّ سليمان بن داود غبر حينا- وهو ميّت- معتمدا على عصاه، في الموضع الذي لا يحجب عنه إنسيّ ولا جنّيّ، والشّياطين مهم المكدود بالعمل الشديد، ومنهم المحبوس والمستعبد، وكانوا كما قال الله تعالى:
[١] إشارة إلى وقعة أحد، وهي التي ورد ذكرها في سورة آل عمران؛ الآيات ١٢٢- ١٢٦.