للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فنفسه خلقته ... أم من؟! فقمت مكاني

عن كافر يتمرّى ... بالكفر بالرّحمن [١]

يريد أن يتسوّى ... بالعصبة المجّان

بعجرد وعباد ... والوالبيّ الهجان

وقاسم ومطيع ... ريحانة النّدمان

وتعجّبي من أبي نواس، وقد كان جالس المتكلمين أشدّ من تعجّبي من حمّاد، حين يحكي عن قوم من هؤلاء قولا لا يقوله أحد. وهذه قرّة عين المهجوّ.

والذي يقول: سبحان ماني يعظم أمر عيسى تعظيما شديدا فكيف يقول: إنّه من قبل شيطان؟! وأما قوله: «فنفسه خلقته أم من» فإنّ هذه مسألة نجدها ظاهرة على ألسن العوامّ. والمتكلمون لا يحكون هذا عن أحد.

وفي قوله: «والوالبيّ الهجان» دليل على أنّه من شكلهم.

والعجب أنّه [٢] يقول في أبان: إنّه ممّن يتشبه بعجرد ومطيع، ووالبة بن الحباب، وعليّ بن الخليل [٣] ، وأصبغ [٤]- وأبان فوق ملء الأرض من هؤلاء، ولقد كان أبان، وهو سكران، أصحّ عقلا من هؤلاء وهم صحاة. فأمّا اعتقاده فلا أدري ما أقول لك فيه: لأنّ النّاس لم يؤتوا في اعتقادهم الخطأ المكشوف، من جهة النظر.

ولكن للنّاس تأسّ وعادات، وتقليد للآباء والكبراء، ويعملون على الهوى، وعلى ما يسبق إلى القلوب، ويستثقلون التّحصيل، ويهملون النّظر، حتى يصيروا في حال متى عاودوه وأرادوه، نظروا بأبصار كليلة، وأذهان مدخولة، ومع سوء عادة. والنّفس لا تجيب وهي مستكرهة. وكان يقال: «العقل إذا أكره عمي» . ومتى عمي الطّباع وجسا وغلط وأهمل، حتّى يألف الجهل، لم يكد يفهم ما عليه وله. فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف، والسّابق إلى القلب.


[١] يتمرى: يتزين.
[٢] أي أبا نواس، وهذا التعليق نقله الصولي في أخبار الشعراء المحدثين ١٢.
[٣] لم يرد اسمه في الأبيات التي رواها الجاحظ، وفي ديوان أبي نواس:
«وابن الخليع عليّ ... ريحانة الندمان» .
[٤] لم يرد اسمه في سائر أبيات القصيدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>