للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: ونحن إنما صرنا إذا أطفأنا نار الأتّون [١] وجدنا أرضه وهواه وحيطانه حارّة، ولم نجدها مضيئة، لأن في الأرض، وفي الماء الذي قد لابس الأرض، حرّا كثيرا، وتداخلا متشابكا؛ وليس فيهما ضياء. وقد كان حرّ النار هيّج تلك الحرارة فأظهرها، ولم يكن هناك ضياء من ملابس فهيّجه الضياء وأظهره، كما اتصل الحرّ بالحرّ فأزاله من موضعه، وأبرزه من مكانه. فلذلك وجدنا أرض الأتّون [١] ، وحيطانها، وهواها حارّة، ولم نجدها مضيئة.

وزعم أبو إسحاق أنّ الدليل على أن في الحجر والعود نارا مع اختلاف الجهات، أنه يلزم من أنكر ذلك أن يزعم أن ليس في السّمسم دهن ولا في الزّيتون زيت.

ومن قال ذلك لزمه أن يقول: أن ليس في الإنسان دم، وأنّ الدّم إنّما تخلّق عند البطّ [٢] ، وكان ليس بين من أنكر أن يكون الصّبر [٣] مرّ الجوهر، والعسل حلو الجوهر قبل ألّا يذاقا، وبين السمسم والزيتون قبل أن يعصرا- فرق.

وإن زعم الزاعم أنّ الحلاوة والمرارة عرضان، والزيت والخلّ جوهر، وإذا لزم من قال ذلك في حلاوة العسل، وحموضة الخلّ، وهما طعمان- لزمه مثل ذلك في ألوانهما، فيزعم أنّ سواد السّبج [٤] ، وبياض الثلج، وحمرة العصفر، وصفرة الذهب، وخضرة البقل، إنما تحدث عند رؤية الإنسان، وإن كانت المعاينة والمقابلة غير عاملتين في تلك الجواهر.

قال: فإذا قاس ذلك المتكلّم في لون الجسم بعد طعمه، وفي طوله وعرضه وصورته بعد رائحته، وفي خفته وثقل وزنه، كما قاس في رخاوته وصلابته- فقد دخل في باب الجهالات، ولحق بالذين زعموا أن القربة ليس فيها ماء، وإن وجدوها باللمس ثقيلة مزكورة [٥] وإنما تخلّق عند حلّ رباطها. وكذلك فليقولوا في الشمس والقمر، والكواكب، والجبال، إذا غابت عن أبصارهم.

قال: فمن هرب عن الانقطاع إلى الجهالات، كان الذي هرب إليه أشدّ عليه.


[١] الاتّون: الموقد.
[٢] بطّ الجرح: شقه، والمبطة: المبضع.
[٣] الصّبر: عصارة شجر مر.
[٤] السبج: الخرز الأسود.
[٥] مزكورة: مملوءة.

<<  <  ج: ص:  >  >>