ويمكن من خلال معرفتنا لتاريخ وفاة هؤلاء الشيوخ الشاميين الاستنتاج أن هذه الرحلة تمت قبيل عام ٢٤٣ هـ على أبعد تقدير. ويبدو لنا هذا التفسير مقبولا سيما وأن المصادر المتوفرة لا تتعرض إلى تاريخ حياة البلاذري في الحقبة الواقعة بين خلافتي المأمون والمتوكل مما يبعث على الإفتراض أنه كان آنذاك منكبا على تلقي العلم والأخذ عن شيوخ العراق، ثم رحل بعدها إلى الشام والثغور لاستكمال علومه، وعند ما عاد من الشام إلى سامراء، عاد وهو متسلح بفيض زاخر من مختلف العلوم التي أسهمت في إنضاج موهبته الشعرية بفضل ما كان يقرأه من أخبار العرب وأشعارهم في الشواهد الكثيرة في كتب التاريخ وفي الأخبار والأنساب، وبدأ نجمه في المجتمع بالسطوع زمن المتوكل الذي قرّبه وجعله من بين خالص ندمائه.
تجلت موهبة البلاذري الشعرية في وقت مبكر من شبابه وكانت بغداد آنذاك تعج بالعديد من فطاحل الشعراء ممن يتزاحمون على أبواب الخليفة وأبواب الرؤساء، يمدحونهم وينالون عطاياهم من أمثال كلثوم بن عمرو العتابي، وحبيب بن أوس الطائي - الذي مدح المأمون ولكنه لم يلق حظوة لديه - وغيرهما كثيرون.
وشرع البلاذري - كغيره من شعراء عصره - بالتكسب عن طريق الشعر، فحاول التقرب من الخليفة المأمون [١٩٨ - ٢١٨ هـ/٨١٣ - ٨٣٣ م] ومدحه بأبيات، إلا أن تجربته الشعرية وسنه لم يكونا آنذاك قد نضجا بدرجة كافية بحيث يمكنه مزاحمة فحول الشعراء المحيطين بالخليفة آنذاك بدليل أن محاولته هذه لم تلق صدى لدى المأمون الذي كان بحق يتمتع بحس فلسفي وأدبي عميق، فكان أن طرق بابا آخر من أبواب العلم والأدب له سوق رائجة في كل مكان، هو باب الحديث والأنساب ورواية الأخبار، فصرف سنوات كثيرة من حياته في التردد على العلماء يأخذ عنهم