للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا كثير. فكيف يعودون إلى استراق السّمع، مع تيقنهم بأنّه قد حصّن بالشهب.

ولو لم يكونوا موقنين من جهة حقائق الكتاب، ولا من جهة أنّهم بعد قعودهم مقاعد السّمع لمسوا السّماء فوجدوا الأمر قد تغيّر- لكان في طول التّجربة والعيان الظّاهر، وفي إخبار بعضهم لبعض، ما يكون حائلا دون الطّمع وقاطعا دون التماس الصّعود.

وبعد فأي عاقل يسرّ بأن يسمع خبرا وتقطع يده فضلا عن أن تحرقه النّار؟! وبعد فأيّ خبر في ذلك اليوم؟! وهل يصلون إلى النّاس حتّى يجعلوا ذلك الخبر سببا إلى صرف الدّعوى؟ قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرفة في عامّة هذه الأصول. وفي هذه الأبواب، كنحو ما ألقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجولون في التّيه، وهم في العدد وفي كثرة الأدلّاء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمكارين، من الكثرة على ما قد سمعتم به وعرفتموه؛ وهم مع هذا يمشون حتّى يصبحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدّهر الطويل، ومع قرب ما بين طرفي التّيه. وقد كان طريقا مسلوكا. وإنّما سمّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنّ الله تعالى حين أراد أن يمتحنهم ويبتليهم صرف أوهامهم.

ومثل ذلك صنيعه في أوهام الأمة التي كان سليمان ملكها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيب التي أعطيها. وليس بينهم وبين ملكهم ومملكتهم وبين ملك سبأ ومملكة بلقيس ملكتهم بحار لا تركب، وجبال لا ترام. ولم يتسامع أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكان هذه الملكة.

وقد قلنا في باب القول في الهدهد ما قلنا [١] ، حين ذكرنا الصّرفة، وذكرنا حال يعقوب ويوسف وحال سليمان وهو معتمد على عصاه، وهو ميّت والجنّ مطيفة به وهم لا يشعرون بموته، وذكرنا من صرف أوهام العرب عن محاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطربا ولا ملفّقا ولا مستكرها؛ إذا كان في ذلك لأهل الشّغب متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يخالف فيه طريق الدّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يقر إلّا بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب.

ولعمري ما يستطيع الدّهريّ أن يقول بهذا القول ويحتجّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفلك وعمله، ومادام يرى أن إرسال الرسل يستحيل، وأن الأمر والنّهي، والثواب والعقاب على غير ما نقول، وأنّ الله تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزم.


[١] انظر ما تقدم في ٣/٢٤٩ (باب القول في الهدهد) ، ٤/٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>