للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان مما يشتدّ ضرره، وتشتدّ الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيّات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنّمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدّبر، فاعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى. ومن جهة ما أعد الله عزّ وجلّ للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أنّ الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلّها شرّ صرف أو خير محض؛ فإنّ ذلك لا يكون إلّا بالمزواجة بين المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذّ، والمحقّر والمعظّم، والمأمون والمخوف. فإذا كان الحظّ الأوفر في الاختبار والاختيار. وبهما يتوسل إلى ولاية الله عزّ وجلّ، وآبد [١] كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار الممزوجة من الخير والشرّ، والمشتركة والمركّبة بالنّفع والضر، المشوبة باليسر والعسر- فليعلم موضع النّفع في خلق العقرب، ومكان الصّنع في خلق الحيّة، فلا يحقرنّ الجرجس [٢] والفراش والذرّ والذّبان ولتقف حتّى تتفكّر في الباب الذي رميت إليك بجملته، فإنّك ستكثر حمد الله عزّ وجلّ على خلق الهمج والحشرات وذوات السّموم والأنياب، كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنّسيم.

فإن أردت الزّراية والتّحقير، والعداوة والتّصغير، فاصرف ذلك كلّه إلى الجنّ والإنس، واحقر منهم كلّ من عمل عملا من جهة الاختيار يستوجب به الاحتقار، ويستحقّ به غاية المقت من وجه، والتصغير من وجه.

فإن أنت أبغضت من جهة الطبيعة، واستثقلت من جهة الفطرة ضربين من الحيوان: ضربا يقتلك بسمه، وضربا يقتلك بشدة أسره [٣] لم تلم. إلّا أنّ عليك أن تعلم أنّ خالقهما لم يخلقهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبر على أذاهما، ولأن تنال بالصّبر الدرجة التي يستحيل أن تنالها إلّا بالصّبر. والصبر لا يكون إلّا على حالّ مكروه. فسواء عليك أكان المكروه سبعا وثّابا، أو كان مرضا قاتلا، وعلى أنّك لا تدري لعلّ النزع [٤] ، والعلز [٥] والحشرجة، أن يكون أشدّ من لدغ حيّة، وضغمة [٦]


[١] آبد: دائم «القاموس: أبد» .
[٢] الجرجس: البعوض الصغار «القاموس: جرجس» .
[٣] الأسر: الشد والعصب وشدة الخلق والخلق «القاموس: أسر» .
[٤] يقال: هو في النزع: أي قلع الحياة «القاموس: نزع» .
[٥] العلز: هلع يصيب المحتضر «القاموس: علز» .
[٦] الضغمة: العضّة «القاموس: ضغم» .

<<  <  ج: ص:  >  >>