للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبع. فإلّا تكن له حرقة كحرق النار وألم كألم الدّهق [١] ، فلعلّ هناك من الكرب ما يكون موقعه من النّفس فوق ذلك.

وقد عمنا أنّ النّاس يسمّون الانتظار لوقع السيف على صليف [٢] العنق جهد البلاء؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذع النار، ولا من شكل ألم الضرب بالعصا.

فافهم فهمك الله مواقع النفع كما يعرفها أهل الحكمة وأصحاب الأحساس الصحيحة.

ولا تذهب في الأمور مذهب العامّة، وقد جعلك الله تعالى من الخاصة، فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنّها لم تجعل لعبا، ولم تترك هملا. واصرف بغضك إلى مريد ظلمك، لا يراقب فيك إلّا ولا ذمّة، ولا مودة، ولا كتابا ولا سنّة. وكلما زادك الله عزّ وجلّ نعمة ازداد عليك حنقا، ولك بغضا. وفرّ كلّ الفرار واهرب كلّ الهرب، واحترس كلّ الاحتراس، ممن لا يراقب الله عزّ وجلّ؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إمّا أن يكون لا يعرف ربّه مع ظهور آياته ودلالاته، وسبوغ آلائه، وتتابع نعمائه، ومع برهانات رسله، وبيان كتبه؛ وإمّا أن يكون به عارفا وبدينه موقنا، وعليه مجترئا، وبحرماته مستخفّا. فإن كان بحقّه جاهلا فهو بحقّك أجهل، وله أنكر. وإن كان به عارفا وعليه مجترئا فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيع ولأياديك أكفر.

فأمّا خلق البعوضة والنّملة والفراشة والذّرّة والذّبّان والجعلان، واليعاسيب والجراد- فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذّرء [٣] ؛ فربّت أمة أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رؤوسها الذّرّ، وأهلكت بالفأر، وجردت بالجراد، وعذّبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذّبّان، فهي جند إن أراد الله عزّ وجلّ أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبّرهم وعتوّهم؛ ليعرفوا أو ليعرف بهم أنّ كثير أمرهم، لا يقوم بالقليل من أمر الله عزّ وجلّ. وفيها بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكّر، وصلاج لمن استبصر، وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجّة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصّبر والفكرة. وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة.


[١] الدهق: خشبتان يغمز بهما الساق «القاموس: دهق» .
[٢] صليف العنق: عرضه «القاموس: صلف» .
[٣] الذرء: النسل والخلق «القاموس: ذرأ» .

<<  <  ج: ص:  >  >>