للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا القول الذي تؤمنون به في الهدهد، من هذا النوع.

قلنا: إنّ الله تعالى لم يقل: وتفقّد الطّير فقال ما لي لا أرى هدهدا من عرض الهداهد، فلم يوقع قوله على الهداهد جملة، ولا على واحد منها غير مقصود إليه، ولم يذهب إلى الجنس عامّة، ولكنّه قال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ

[١] فأدخل في الاسم الألف واللام، فجعله معرفة فدلّ بذلك القصد على أنّه ذلك الهدهد بعينه. وكذلك غراب نوح، وكذلك حمار عزير، وكذلك ذئب أهبان ابن أوس؛ فقد كان لله فيه وفيها تدبير، وليجعل ذلك آية لأنبيائه، وبرهانا لرسله.

ولا يستطيع أعقل الناس أن يعمل عمل أجرإ النّاس، كما لا يستطيع أجرأ النّاس أن يعمل أعمال أعقل الناس. فبأعمال المجانين والعقلاء عرفنا مقدارهما من صحّة أذهانهما وفسادها، وباختلاف أعمال الأطفال والكهول عرفنا مقدارهما في الضعف والقوّة، وفي الجهل والمعرفة. وبمثل ذلك فصلنا بين الجماد والحيوان، والعالم وأعلم منه، والجاهل وأجهل منه. ولو كان عند السّباع والبهائم ما عند الحكماء والأدباء، والوزراء والخلفاء والأمم والأنبياء، لأثمرت تلك العقول، باضطرار، إثمار تلك العقول. وهذا باب لا يخطئ فيه إلّا المانيّة [٢] وأصحاب الجهالات فقط. فأمّا عوامّ الأمم، فضلا عن خواصهم، فهم يعلمون من ذلك مثل ما نعلم. وإنما يتفاضل بالبيان والحفظ، وبنسق المحفوظ. فأمّا المعرفة فنحن فيها سواء. ولم نعرف العقل وعدمه ونقصانه، وإفادته، وأقدار معارف الحيوان إلّا بما يظهر منها. وبتلك الأدلّة عرفنا فرق ما بين الحيّ والميت، وبين الجماد والحيوان.

فإن قال الخصم: ما نعرف كلام الذّئب، ولا معرفة الغراب، ولا علم الهدهد.

قلنا: نحن ناس نؤمن بأنّ عيسى عليه السلام خلق من غير ذكر وإنّما خلق من أنثى؛ وأنّ آدم وحوّاء خلقا من غير ذكر وأنثى، وأنّ عيسى تكلّم في المهد، وأنّ يحيى بن زكريّا نطق بالحكمة في الصّبا، وأنّ عقيما ألقح، وأنّ عاقرا ولدت [٣] ؛ وبأشياء كثيرة


[١] ٢٠/النمل: ٢٧.
[٢] المانية: ويقال: المنانية؛ والمنائية؛ والمانوية، هم الزنادقة أصحاب ماني بن فاتك الذي كان يقول:
إن مبدأ العالم من كونين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما في صراع مستمر لا ينتهي إلا بانتهاء الدنيا. انظر فهرست ابن النديم ٤٥٦ وما يليها، ومروج الذهب ٧/٦٢٩.
[٣] إشارة إلى قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ
[آل عمران: ٤٠] ، وقوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً
[مريم: ٨] ، وقوله تعالى: قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً
[هود: ٧٢] .

<<  <  ج: ص:  >  >>