للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خرجت خارجية من نسق العادة. فالسّبب الذي به عرفنا أنّه قد كان لذلك الهدهد مقدار من المعرفة، دون ما توهّمتم وفوق ما مع الهدهد. ومتى سألتمونا عن الحجّة فالسبيل واحدة. ونحن نقرّ بأنّ من دخل الجنة من المجانين والأطفال يدخلون عقلاء كاملين، من غير تجارب وتمرين وترتيب. فمسألتكم عما ألهم الهدهد، هي المسألة عمّا ألهم الطفل في الجنة.

فإن قال قائل: فإنّ ذلك القول كلّه، الذي كان من الهدهد، إنما كان على الإلهام والتّسخير، ولم يكن ذلك عن معرفة منه، فلم قال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ

[١] ؟ قلنا: فإنّه قد يتوعّد الرّجل ابنه- وهو بعد لم يجر عليه الأحكام- بالضّرب الوجيع، إن هو لم يأت السّوق، أو يحفظ سورة كذا وكذا؛ فلا يعنّفه أحد على ذلك الوعيد. ويكذب فيضربه على الكذب، ويضرب صبيا فيضربه لأنه ضربه.

وهو في ذلك قد حسن خطّه، وجاد حسابه، وشدا من النّحو والعروض والفرائض شدوا حسنا، ونفع أهله، وتعلم أعمالا، وتكلّم بكلام، وأجاب في الفتيا بكلام فوق معاني الهدهد في اللّطافة والغموض. وهو في ذلك لم يكمل لاحتمال الفرض والولاية والعداوة.

فإن قال: فهل يجوز لأحد أن يقول لابنه: إن أنت لم تأت السّوق ذبحتك؛ وهو جادّ؟ قلنا: لا يجوز ذلك. وإنّما جاز ذلك في الهدهد لأنّ سليمان- ومن هو دون سليمان من جميع العالم- له أن يذبح الهدهد والحمام والدّيك، والعناق والجدي.

والذّبح سبيل من سبل مناياهم. فلو ذبحه سليمان لم يكن في ذلك إلّا بقدر التّقديم والتأخير، وإلّا بقدر صرف ما بين أن يموت حتف أنفه، أو يموت بالذّبح. ولعلّ صرف ما بينهما لا يكون إلّا بمقدار ألم عشرين درّة [٢] . ولعلّ نتف جناحه يفي بذلك الضرب. وإذا قلنا ذلك فقد أعطينا ذلك الهدهد بعينه حقّ ما دلّت عليه الآية، ولم نجز ذلك في جميع الهداهد، ولم نكن كمن ينكر قدرة الله على أن يركّب عصفورا من العصافير ضربا من التراكيب يكون أدهى من قيس بن زهير. ولو كان الله تعالى قد فعل ذلك بالعصافير لظهرت كذلك دلائل.

على أنّا لو تأوّلنا الذّبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهيم إسماعيل عليهما السلام- وإنما كان ذلك ذبحا في المعنى لغيره- أو على معنى قول القائل: أمّا أنا


[١] ٢١/النمل: ٢٧.
[٢] الدّرّة: درة السلطان التي يضرب بها. (اللسان: درر) .

<<  <  ج: ص:  >  >>