للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعرابا، ومثل هذا الامتحان من مجّاعة كثير، ولعمري إنّ المتنبئ ليخدع ألفا مثل قيس ابن زهير، قبل أن يخدع واحدا من آخر المتكلمين، وإن كان ذلك المتكلم لا يشقّ غبار قيس فيما قيس بسبيله.

قال مسيلمة: فإن أنا سألت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: نعم. قال: فإني أريد أن أناجي ربّي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عنّي، وإن شئتم فادخلوه هذا البيت وأدخلوني معه، حتى أخرجه إليكم السّاعة في الجناحين يطير، وأنتم ترونه. ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحمام، ولا كان عندهم باب الاحتياط في أمر المحتالين. وذلك أن عبيدا الكيّس، فإنّه المقدّم في هذه الصناعة، لو منعوه السّتر والاختفاء، لما وصل إلى شيء من عمله جلّ ولا دقّ؛ ولكان واحدا من النّاس.

فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيّأه، فأدخل طرف كلّ ريشة ممّا كان معه، في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقصّ. وقصب الرّيش أجوف، وأكثر الأصول حداد وصلاب. فلما وفّى الطّائر ريشه صار في العين كأنّه برذون موصول الذّنب، لا يعرف ذلك إلّا من ارتاب به. والحمام بنفسه قد كان له أصول ريش، فلما غرّزت تمت فلما أرسله من يده طار. وينبغي ألّا يكون فعل ذلك بطائر قد كانوا قطوه بعد أن ثبت عندهم. فلما فعل ذلك ازداد من كان آمن به بصيرة، وآمن به آخرون لم يكونوا آمنوا به، ونزع منهم في أمره كلّ من كان مستبصرا في تكذيبه.

قال: ثمّ إنّه قال لهم- وذلك في مثل ليلة منكرة الرّياح مظلمة، في بعض زمان البوارح [١]- إنّ الملك على أن ينزل إليّ، والملائكة تطير، وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهرا فليدخل منزله؛ فإنّ من تأمّل اختطف بصره! ثمّ صنع راية من رايات الصّبيان التي تعمل من الورق الصّينيّ، ومن الكاغد [٢] ، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلّق في صدورها الجلاجل [٣] ، وترسل يوم الرّيح بالخيوط الطّوال الصّلاب.


[١] البوارح: جمع بارحة، وهي الريح الشديدة التي تحمل التراب.
[٢] الكاغد: القرطاس الذي يكتب فيه.
[٣] الجلاجل: الأجراس الصغيرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>