للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمه دائما، لكنه لما سمع ما يكره في حق النبي، بكى، وهو الذي لم يبك من قبل لرفضها دعوته للإسلام، وما ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يشكو حال أمه إلا هذا اليوم، كل ذلك يدل على غيرته على رسول الله وأن يمسه أحد بسوء، ولو كانت أمه.

كما أن على المسلم أن يحزن ويبكي إذا سمع أحد ينتقص من قدر الله ورسوله، ويكون ذلك خوفا على المتكلم من سوء الخاتمة، وكل من لا يظهر ذلك ولا يتأثر به، ففي قلبه شيء حال بينه وبين هذا الحزن، فعليه أن يفتش في نفسه ويتدارك أمره.

[الفائدة الثالثة:]

ما يجب أن يكون عليه المسلم من تعظيم لأبويه، ولو كانا مشركين؛ لأن أبا هريرة سمع من أمه ما يكره ويبكيه في حق أحب الخلق إليه، ولم ينهرها أو يوبخها عما قالت، والدليل على صحة ما فعله أبو هريرة، أن الرسول ما لامه عن سكوته لما سمع ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم. وكان هذا هو التوجيه الرباني لهم، قال تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: ١٥] ، فأمرنا الله عز وجل بمصاحبتهما بالمعروف في حال كونهما كفارا، يبذلون ما في وسعهم لدعوتنا للشرك، وترك ما نحن عليه من الإيمان، فما بالكم لو كان الوالدان كفارا ولم يصدّانا عن الإيمان، أو كانا مسلمين لكن فيهم بعض المعاصي، وكيف يجب أن يكون حالنا معهم، إذا كانا مسلمين طائعين بارين، كيف تكون معاملتنا معهم؟ أرى أن كثيرا من المسلمين قد فرطوا في هذا الجانب أشد التفريط، حتى وقع فيه من يبدو عليه علامات الصلاح والتقوى، ووالله إنه لنذير شؤم على الأمة كلها، فعلى الجميع أن يتدارك الأمر قبل فوات الأوان، ألا يعقل المسلم صاحب الدين كيف قرن الله عز وجل بين الشرك وعقوق الوالدين؟! قال تعالى:

وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: ٢٣] ، وقد عدّ النبي العقوق من أكبر الكبائر، وتأمل أخي المسلم حديث الثلاثة الذين مالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة، فتوسلوا إلى الله بأحسن أعمالهم حتى ينجيهم من الموت، فما وجد أحدهم لنفسه عملا أعظم من أنه أتى ذات ليلة باللبن ليسقي والديه، فوجدهما نائمين، فكره إيقاظهما من نومهما، وكره أن يبدأ بالصبية، وهم يتضاغون تحت رجليه ليسقيهم اللبن فأبى، حتى طلع الفجر، وهو واقف يحمل اللبن والأولاد يبكون، لقول الرجل في الحديث: (فما زال ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر) «١» وتقبل الله دعاءه بسبب هذا


(١) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: إجابة دعاء من برّ والديه، برقم (٥٩٧٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>