الحديث أخذه من فم أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه بلا وساطة، فقال:(حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ) .
الفائدة الثّامنة:
قد يسأل سائل، كيف تقبل الأمة هذا الحديث، من أبي سفيان بن حرب، وكان وقتها كافرا، لم يسلم بعد؟ أقول: إن هناك فرقا بين وقت تحمل الحديث، ووقت أداء الحديث- أي روايته- فالأخير هو الذي يهم أهل الحديث، فيجب أن يكون الراوي وقت الأداء، مسلما صادقا عدلا، فأبو سفيان وقت تحمل هذا الحديث كان كافرا، ولكن عند الأداء كان مسلما، مثاله الحديث الذي رواه البخاري عن محمود بن الربيع، والذي ذكر فيه أنه عقل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجّة مجّها في وجهه، وهو ابن خمس سنين «١» ، فوقت تحمل الصحابي هذا الحديث كان صغيرا لا تقبل منه الرواية، ولكن قبلت منه الرواية لما كبر.
الفائدة التّاسعة:
في الحديث ذكاء هرقل وحكمته، ويتبين ذلك في النقاط التالية:
١- أنه لما جاءه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعوته إلى الإسلام، لم يصدقه ولم يكذبه، حتى يتأكد من أمره، فتوسط في الأمر فقال:(هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي) ، كما أن من حكمته أيضا، أن سأل عن قوم يعرفون مدخله ومخرجه ليسألهم عنه. وهذا من حكمة الرجل، التريث وعدم الحكم دون تروّ أو تفكر.
وتذكّرنا هذه الواقعة بحكمة بلقيس ملكة سبأ، والتي تنضح كل قصتها بالحكمة، فنعم الملكة كانت، لما جاءها كتاب سليمان عليه السّلام حكمت عليه بأنه كتاب كريم، ولم تتخذ قرارا سريعا بل شاورت الملأ حتى لا يعتب عليها أحد إذا أخطأت في قرارها، ثم أرسلت إلى سليمان هدية، لتعلم هل يريد دنيا فيقبل هديتها، أم يريد الآخرة فيرد عليها هديتها، ثم لما رأت عرشها عند سليمان عليه السّلام، تروّت في حكمها لما سئلت عنه، فلم تستطع أن تنفي أنه عرشها، لأنه مشابه جدّا له، ولم تحكم أنه هو حيث تركته خلفها باليمن، ولا يعقل أن يأتي قبلها فكانت من حكمتها أنها قالت: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: ٤٢] ، ولما دعاها سليمان عليه السّلام أن تدخل القصر- وأرض القصر ظهرت لها كأنها بحر عميق فإذا خافت ولم تدخل عيب عليها خوفها وهي ملكة، وإن هي دخلت ابتل لباسها- فكل ما فعلته دون تردد أن كشفت عن ساقيها.