للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رابعا: ألطف الخطاب في القرآن حتى عند معاتبته صلى الله عليه وسلّم

١- اللطف عند العتاب:

لم يقتصر لطف الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم على دفع ما ظاهره تكذيبه، أو عدم الخطاب بما يوهم الهجر، ولكن تعدى خطاب القرآن إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، تعدى إلى ما هو أجمل وأتم، تعدى إلى اللطف عند العتاب، وهل في العتاب رقة في التعبير؟ نعم إذا كان العتاب بين حبيب وحبيبه، إذا كان العتاب من الله- سبحانه وتعالى إلى صفوته من خلقه وخليله صلى الله عليه وسلّم وسنضرب لذلك مثلين من كتابه العزيز.

[الشاهد الأول:]

قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) [التوبة: ٤٣] هذا مثال للطيف عتاب الله- سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلّم.

وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلّم أذن لطائفة من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، قال القرطبي- رحمه الله-: «قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون» «١» .

ووجه اللطف في هذا العتاب واضح جدّا: وهو أن الله عزّ وجلّ بدأ العتاب الكريم بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلّم بعفو ربه، ذكر ابن كثير عن عون قوله: «هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذه؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة» ، كما ذكر أيضا قول قتادة: «عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النّور: ٦٢] » «٢» .

وقال القرطبي: (أي سامحك الله وغفر لك ما أجريت، لم أذنت لهم في التخلف، وكان عليك أن تمتحنهم ليتبين لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحق العذر ممن لا يستحق) «٣» .

وقال القرطبي أيضا: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هو افتتاح الكلام كما يقول: أصلحك الله


(١) انظر الجامع لأحكام القرآن (٨/ ١٥٥) .
(٢) انظر تفسير ابن كثير (٢/ ٣٦١) .
(٣) انظر الجامع للحكام القرآن (٨/ ١٥٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>