قوله:«أسلم تسلم» ، منتهى البلاغة، لما فيها من الجناس الاشتقاقي، فالكلمتان من ثلاثة حروف فقط، السين واللام والميم، ومع ذلك تشتمل الكلمتان على معان كثيرة بحروف قليلة مع بديع الجناس، أما المعاني الكثيرة، فهي تشتمل على الأمر بالدخول في الإسلام والانقياد له، وذلك في قوله:«أسلم» ، وهذا الأمر من الرسول في غاية القوة؛ لأن فيه عدم مداهنة الكفار والتملق إليهم، ولو كانوا في موضع قوة، ويملكون ما لا نملك من العدد والعدة، فمن أسلم فقد سلم في الدنيا من الحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال، وفي الآخرة من الخزي والخلود في جهنم، ومن لم يسلم فلن يسلم من كل ذلك، ففي قوله:«تسلم» ترغيب إن أسلم، وترهيب إن لم يسلم، لأن الذي يفوته مغانم السلامة، سيناله مغارمها.
لم يحتج النبي صلّى الله عليه وسلّم لبيان كل ذلك إلا بكلمتين خفيفتين على اللسان والأذن، وذلك لما أعطاه الله من جوامع الكلم، وهذه القوة في الدعوة. وعرض ما عندنا من حق، ليست بغريبة على الرسل، انظر إلى ما كتبه سليمان عليه السّلام إلى بلقيس في كتابه الكريم: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: ٣١] ، فسليمان لم يرجوهم ولم يستسمحهم، بل أمرهم أمرا بالدخول في الإسلام، وهم الذين لم يؤذوه ولم يناصبوه العداء، بل لم يكن يعرف عنهم أي شيء قبل بلاغ الهدهد له بالنبأ المبين، ولم يكن في هذا النبأ ما يعيبهم إلا قول الهدهد: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: ٢] ، هذا كل الذي أغضب سليمان عليه السّلام، فجيّش لذلك الجيوش، مع أن الملكة قد حاولت مصالحته، وأن تبدي له أنها تريد السلام لا الحرب وأنها لا تعاديه، فأرسلت له بهدايا عظيمة فلم يقبل تلك الهدايا، لماذا؟ والمثل الشائع يقول: الرسول قبل الهدية، ولكنه لم يقبلها وردها عليهم بل وتوعدهم بالخروج من ديارهم أذلة، لأنها رشوة، في مقابل أن يسكت على ما هم فيهم من الشرك بالله، وقد أكد الله- عز وجل- أن قتال الكفار واجب على المسلمين، إلى أن يكون الدين كله في الأرض لله، لا يعبد معه شيء آخر، قال تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: ٣٩] . قال الإمام النووي رحمه الله:(وفيه استحباب المبالغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله صلّى الله عليه وسلّم:«أسلم تسلم» في نهاية الاختصار، وغاية من الإيجاز والمبالغة، وجمع المعاني، مع ما فيه من بديع التجنيس وشمولاه لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل، وأخذ الديار والأموال، ومن عذاب الآخرة)«١» .