ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد) ، وتظهر حكمته في أنه في كل غزوة يوري بغيرها ولا يعلم أحدا وجهته، فلا يعطي للعدو فرصة أن يتأهب ويستعد لملاقاته، ومن ثمّ يفوّت، على العدو هذه الميزة.
وتظهر حكمته صلى الله عليه وسلم أيضا، في غزوة تبوك حيث أعلم الصحابة وجهته، ليأخذوا استعدادهم من كل وجه، لأن الغزو بعيد، والعدو كثير العدد والعدة. فكان من عظيم حكمته أن يعلمهم، ومن هنا تخلف الكثير من غير أولي الأعذار، ونتعلم من هذا الدرس النبوي، أنه ليس هناك قواعد ثابتة، يمكن أن نطبقها في جميع الأحوال، ومع جميع الناس، ولكن الحكمة أن نضع الأمور في نصابها، ونوازن بين مضار كل أمر وفوائده ونرجح بين الكفتين، فأيهما غلب حكمنا به، فالرسول صلى الله عليه وسلم وازن في كل غزوة بين مصالح التوراة بغزوة أخرى، ومضار التصريح، فترجح له مصالح التوراة على مضارها، أما في غزوة تبوك فترجح له صلى الله عليه وسلم مصالح التصريح على مضاره، وهكذا في كل الأمور.
ونجد في الحديث مثالا آخر، وهو أن المعتاد من النبي خاصة مع أصحابه تقديم الرحمة لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:
١٥٩] ، والأمثلة على ذلك كثيرة في السنة، وقد ذكرت شيئا منها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، ولكن في الحديث الذي بين أيدينا، نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب الشدة مع كعب وصاحبيه، فقد نهى الناس عن كلامهم، ورد السلام عليهم، وزاد الأمر أن أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، ويستمر الأمر على هذا خمسين ليلة، يتعرضون للبلاء والامتحان، بل الفتنة في الدين، كخطاب ملك غسان لكعب، بالإضافة إلى اعتزال أهله، وهو في حال الشباب والقوة، وكل ذلك يدلنا على أنه ليس من الحكمة استعمال اللين وتقديم جانب الرحمة بصفة مستمرة، ولا تقديم جانب الشدة دائما، لكن الحكمة أن يكون لكل مقام مقال، ووزن الأمور بميزان دقيق، ووزن المصالح والمفاسد، وذلك بلا هوى، أو محاباة، أو مصالح شخصية.
الفائدة السّادسة عشرة:
نختم التعليق على هذا الحديث بفائدة عظيمة، وهي أننا يجب أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله- عز وجل- وحسن الثقة به، والتوكل عليه، وتعظيم كل أوامر الدين والعمل بها، وذلك حتى نستطيع أن نخرج من المحن والابتلاآت، دون أن يتزعزع إيماننا أو يضعف يقيننا، وهذا ما حدث مع كعب، فقد تعرض للعديد من أنواع المحن، وخرج منها كلها أفضل حالا وثباتا ويقينا مما دخل، وذلك لأن عنده رصيدا من