قال: فشقّ عليه قال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غيّبت عنه، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليراني الله ما أصنع؟ قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمر وأين؟
فقال: واها لريح الجنّة، أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتّى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته عمّتي الرّبيّع بنت النّضر: فما عرفت أخي إلّا ببنانه. ونزلت هذه الآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: ٢٣] ، قال: فكانوا يرون أنّها نزلت فيه وفي أصحابه «١» .
[الشاهد في الحديث:]
قول الراوي في آخر الحديث: فكانوا يرون أنها نزلت فيه- أي في أنس- وفي أصحابه- أي الذي شهدوا معه غزوة أحد.
[- وقد أثنت عليهم آية الباب بصفات حميدة:]
[الأولى:]
أنهم رجال، وهذه اللفظة تعطي للسامع انطباع القوة والشجاعة والهمة العالية، مثاله قوله تعالى في الثناء على أهل مسجد قباء: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التّوبة: ١٠٨] . ولم تذكر لفظة رجال في القرآن إلا للمديح.
[الثانية:]
أن هؤلاء الرجال فيهم صفة الصدق وهي صفة كمال، قلّ من يتصف بها.
[الثالثة:]
أن هؤلاء الرجال عاهدوا الله- سبحانه وتعالى-، فكان خروجهم للجهاد لله، وفي ذلك تزكية عظيمة لهم؛ إذ إن نية خروجهم لا يشوبها أي شائبة، بل كانت وفاء للعهد مع الله، والذي يدل على تلبسهم بهذا العهد ووفائهم به أنه قال: صَدَقُوا.
[الرابعة:]
وهي من كمال صدقهم مع الله وإخلاص النية، مع كمال رجولتهم أنهم لم يبدلوا أي تبديل ولم يدخل في عهدهم أي تسويف أو شبهة رياء، وهذا من باب التوكيد الشديد على وفائهم بالعهد وصدق نياتهم.
فقد ينوي الإنسان عمل الخير إذا استطاع وهو صادق في نيته، ولكن إذا جاء الاختيار ويسّر له العمل ووافته الفرصة تقاعس وسوّف أو بخل واستغنى، كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.