وأعتقد أن سبب عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالليل، ليبين لهم الحكمة من عدم صلاته معهم، أنه أراد أن يحسم القضية تماما مع علمه صلى الله عليه وسلم أنهم في أشد الشوق لخروجه، فرؤيتهم له وهو خارج من بيته يزيد أملهم وشوقهم للصلاة خلفه، فالاعتذار إليهم في مثل تلك الحالة من المؤكد أنه سيسبب لهم حزنا خاصة إذا علموا أنه لن يصلي بهم مرة أخرى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن من الأفضل تركهم بالليل، وهم يعلمون أن هناك عذرا يمنعه من الخروج إليهم، وإن صح هذا الاستنباط، فيكون هذا التصرف دليلا على حكمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بالأمة.
[الفائدة الثانية:]
في حرص الصحابة على الخير، ويتمثل ذلك في:
١- اجتماعهم في جوف الليل حتى يصلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
٢- تحدثهم صباح كل ليلة، بأنهم صلوا القيام بالمسجد، مما كان يزيد عدد المصلين كل ليلة، حتى عجز المسجد بأهله في الليلة الرابعة، وهذا من حرصهم على الخير.
٣- انتظارهم طويلا أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم الليلة الرابعة، لعله يخرج إليهم، وورد في بعض روايات البخاري:(فقدوا صوته وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم) ، وعنده أيضا:(فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب) ، وهذا مسلك أصحاب الهمم العالية في العبادة، ليس كمثل من يعزم على فعل الخير، فيرده أدنى سبب، فيقول:
(قدر الله وما شاء فعل) ، ويقول آخر:(إنما الأعمال بالنيات) ، ويقول ثالث:(نية المرء خير من عمله) ، فليس الأمر بهذه السهولة، أن نطلب الأجر والثواب، دون الرغبة الأكيدة في عمل الخير والحرص عليه وبذل كل الجهد لتحصيله، بل ينبغي الأسى والأسف على فواته، حتى ولو كان الأمر خارج إرادة العبد.
د- شفقته صلى الله عليه وسلم بمن ارتكب الكبائر:
عن عمران بن حصين أنّ امرأة من جهينة أتت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزّنى فقالت: يا نبيّ الله أصبت حدّا فأقمه عليّ فدعا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وليّها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ، ففعل، فأمر بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فشكّت عليها ثيابها ثمّ أمر بها، فرجمت ثمّ صلّى عليها، فقال له عمر: تصلّي عليها يا نبيّ الله، وقد زنت؟! فقال:«لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله؟!»«١» .
(١) مسلم، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (١٦٩٦) .