للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتفرع على ذلك عدم جواز الحكم بين المتخاصمين إلا بعد سماع دعواهما كاملة.

وأودهنا أن أقول للقضاة، وغيرهم ممن يتصدى للحكم بين الناس، إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب لليهودي، ووجّه عتابه لصاحبه الأنصاري، وشتان ما بين الرجلين في ميزان الإسلام، فإياكم أيها القضاة، أن تراعوا في أحكامكم نسبا أو صهرا أو مصالح مشتركة مع أحد المتنازعين، فتحكموا له دون الآخر.

قال- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) [النساء: ٥٨] . ويزداد الأمر سوآ إذا باع القاضي دينه وأخذ رشوة من أحد المتخاصمين.

٣- وفاؤه صلّى الله عليه وسلّم للأنبياء، وذكرهم بكل جميل وحسن، وإظهار فضلهم في كل مناسبة، ورد في رواية عند البخاري: «فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي» «١» . فلم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم غضاضة أن يذكر لموسى فضلا يختص به عنه صلّى الله عليه وسلّم فلا شك أن الذي بعث أولا، أو لم يصعق أصلا، أفضل في هذه الجزئية، من الذي بعث بعده، وهذا من تمام تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وحبه لإخوانه من الأنبياء، وسلامة صدره وصفاء قلبه، وقد خصصت فصلا كاملا لهذا الموضوع.

٤- جواز وقوع الاجتهاد منه صلّى الله عليه وسلّم فيما ليس فيه وحي من الله، تبارك وتعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي؟!» ووجه الاجتهاد هنا، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد وضع فرضين للمسألة، ولو كان عنده صلّى الله عليه وسلّم وحي في المسألة، ما كان هناك مجال للاحتمالات. ونقطع أن أحد الاحتمالين هو الحق، وأنه لا احتمال ثالث في المسألة، ولولا ذلك لصوب الله- سبحانه وتعالى- اجتهاده في الحال.

[الفائدة الثانية:]

فضيلة ظاهرة لموسى- عليه الصلاة والسلام- من كونه أول من يفيق من الصعقة الثانية، أو أنه لا يصعق أصلا، ومن كونه أيضا (يمسك بقائمة من قوائم عرش الرحمن) ، وهذا من أعظم مظاهر التشريف له يوم القيامة، ففي الحديث: «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» ، وهذا من دلائل قربه من الله- تبارك وتعالى- وعلو منزلته.

[الفائدة الثالثة:]

تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفوس أصحابه رضي الله عنهم جميعا، ويظهر هنا في إنكار الأنصاري قسم اليهودي في قوله: (والذي اصطفى موسى على البشر) ليلقنه أن ببعثة محمد


(١) البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، برقم (٣٤١٥) ، من حديث أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>