للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يري شيئا أحق منه بالاتباع؛ لأنه الحق وخلافه الظلم، استفدنا ذلك من قول عائشة: (حتى جاءه الحق) ولا يقال: إن المقصود بالحق هنا هو جبريل، لأنها قالت بعدها مباشرة: (فجاءه الملك) ، والملك هو جبريل، قال الإمام النووي رحمه الله: (أي جاءه الوحي) «١» .

الفائدة التّاسعة:

قوله: «فغطني حتى بلغ منى الجهد» ، أي ضمني وعصرني حتى بلغ مني التعب غايته، يصدق ذلك قوله لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» . قال النووي رحمه الله:

(قال العلماء: والحكمة في الغطّ شغله من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له وكرّره ثلاثا مبالغة في التّنبّه ففيه أنّه ينبغي للمعلّم أن يحتاط في تنبيه المتعلّم وأمره بإحضار قلبه) «٢» .

والعجيب أن يفعل جبريل عليه السّلام هذا مع الرسول في أول لقاء معه، والذي يفترض فيه أن يكون أكثر ودا وتلطّفا، ولكن هكذا يربّى النبيّ من اليوم الأول للبعثة، يعوّد نفسه على أعباء الرسالة، ويؤهل نفسه على ما سينزل عليه من ربه، قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) [المزمل: ٥] .

ولا يخفى على أحد ما كان يعانيه النبي من شدة عند نزول الوحي، فقد ورد في البخاري، عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» . قالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا) «٣» .

وكذلك شدد عليه جبريل عليه السّلام من أول يوم ليتحمل الأمر في معاندة أهل الزيغ والضلال، فقد روى البخاري، عن عبد الله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتّى سجد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كان لي منعة!! قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساجد لا يرفع رأسه حتّى جاءته فاطمة فطرحت عن


(١) شرح صحيح مسلم (٢/ ١٩٩) .
(٢) شرح صحيح مسلم (٢/ ١٩٩) .
(٣) البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم (٢) ومسلم، كتاب: الفضائل، باب: عرق النبي صلّى الله عليه وسلّم في البرد، برقم (٢٣٣٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>