العلم أرسخ، كل ذلك شريطة أن يأخذ الإنسان العلم من منابعه الصحيحة، ويبذل فيه جهده، ويعمل فيه سمعه وبصره وقلبه، مع تقوى الله- عز وجل- لقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢٨] ، وليس في الآية أبدا دليل على ما يدعيه بعض الجهلة أن تقوى الله تأتي بعلم رباني- وهو ما يسمونه بالعلم اللادنّي- دون أن يتكلف الإنسان فيه، الصبر والمشقة وعناء طلب العلم وملازمة الشيوخ.
[الفائدة الخامسة:]
في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) . والعلق: هو الماء المهين، هو أساس مادة الخلق، نفهم من ذلك ضالة قدر الإنسان في مقابل عظيم شأن الله حيث جاءت الآية التي تليها مباشرة: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)[العلق: ٣] ، والله- عز وجل- يذكرنا دائما في القرآن الكريم بضالة مادة الخلق، ليتبين لنا ضالة المخلوق من هذه المادة، والحكمة من ذلك ألا نغتر بما عندنا، ولا نتكبر على الخالق العظيم، وأن يكون ذلك رادعا لنا حتى لا نجادل في الله أو في آيات الله، قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: ٤] .
الفائدة السّادسة:
في قولها:(ثم حبّب إليه الخلاء) ، دليل آخر على اعتناء الله بنبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، فقد حبب الله إليه الخلاء، وهو التعبد في خلوة، مع مظاهر الاعتناء الآخرى التي ذكرت في الكتب مبسوطة، قال الإمام النووي رحمه الله:(قال أبو سليمان الخطّابيّ رحمه الله: حبّبت العزلة إليه صلّى الله عليه وسلّم لأنّ معها فراغ القلب، وهي معينة على التّفكّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشّع قلبه)«١» .
ويتفرع على ذلك: ضرورة أن يربي الداعية نفسه على المجاهدة والصبر، وأن يجعل جزآ من عبادته لله في السر أو في خلوة، ليستعين بذلك على مجاهدة الناس والصبر على أذاهم، حتى تكون الخلوة معينا له على تحقيق الإخلاص؛ لأن جلّ أعمال الداعية يراها الناس، وقد يتهمه الشيطان بالرياء، فتأتي الخلوة لتزيل هذه الشبهة التي قد تعكر عليه صفو عبادته.
ولا يشترط أن ينقطع تماما عن الناس ليحقق الخلوة التي فيها كمال الإخلاص، بل يكفيه أن تكون له بعض العبادات التي لا يراها أحد إلا الله- عز وجل-، كقيام الليل، وذكر الله خاليا، حتى تفيض عيناه من خشية الله، وقد تكون في كفالة يتيم، أو صدقة جارية لا يعلمها إلا الله، وهذه الأمور من الضرورة بمكان لكل أحد، حتى يتأكد من نفسه الإخلاص، وحذار حذار، أن تعلم كلّ أحد بكل أعمالك التي تتقرب بها إلى الله، أو تحبّ